معادلات هلسنكي للعالم الجديد: ناصر قنديل
– إذا وضعنا جانباً ما يتصل بقراءة موازين القوى التي عبّرت عنها قمة هلسنكي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، يمكن استخلاص المعادلات التي أسفرت عنها القمة، والتي ستشهد المزيد من التطوّر تمهيداً لمسار ربما يحتاج السنتين الباقيتين من عمر ولاية ترامب ليتبلور بإنجازات تمهّد له الولاية الثانية التي ستكون فرصة تظهير المعادلات الجدية بوضوح أشدّ وتحويلها قواعد حاكمة في المشهد الدولي وإدارة الاقتصاد والسياسة فيه .
– عملياً مع التقاسم الذي شهدته القمة لسوق النفط والغاز في أوروبا، وهي السوق الأكبر عالمياً لبلدين، أحدهما روسيا، بلد يعتمد اقتصاده على موارده من بيع النفط والغاز ونجح في استثمار موارده لتطوير شبكات أنابيب مكنته من تحويل قوّته في سوق الطاقة مصدر تحكم سياسي بحاجة أوروبا الحيوية لهذه الموارد، والآخر يخسر حرب الأنابيب التي خاضها في سورية ويسلم بالخسارة لحساب تفرّد روسيا بالسوق الأوروبية كعامل قوة في التفاوض، في ظلّ ركود اقتصادي أميركي فرض استثمارات هائلة في قطاع جديد هو النفط الصخري والغاز الصخري ولا يجد أسواقاً أمامه، بالمنافسة التي تمنح روسيا تفوّقاً بالقرب الجغرافي من السوق الأوروبي والكلفة المنخفضة لشبكات الأنابيب، والكلفة الأصلية المنخفضة للنفط والغاز الطبيعيين. فحرب الأسعار هنا خسارة أميركية محققة، والتقاسم بالتراضي تحت شعار تنظيم السوق وتحديد أسعاره، كما قال بوتين، هو ثمن تسدّده روسيا لأميركا، لتنعش اقتصادها، لكن على قاعدة التسليم بأمرين جديدين، الأول أنّ روسيا هي سيدة أسواق النفط والغاز في العالم، والثاني أنّ أوروبا هي مدى جغرافي حيوي روسي رغم المكانة التي تحتلها أميركا فيها أمنياً وسياسياً واقتصادياً، مقابل ضمان المصالح الأميركية الحيوية في هذا المدى الحيوي وفي قطاع النفط والغاز. وهاتان المعادلتان الجديدتان ستظهران في قضايا كثيرة مختلفة لاحقاً.
– في الحقائق المحيطة بالتفاهم حول سورية، بات واضحاً أنّ المعادلات تنقسم إلى أربعة عناوين: الأول يتصل بالسقف السياسي لمستقبل سورية بين معادلات إسقاط النظام والتقسيم والفدرالية والدولة الموحّدة برئيسها وجيشها، وقد حُسم بوضوح لصالح الخيار الروسي بالتوافق على الدولة السورية الموحّدة برئيسها وجيشها. والثاني يتصل بكيفية إدارة العملية السياسية في ظلّ هذا الخيار، بين استثمار الجغرافيا الواقعة خارج سيطرة الدولة السورية واستثمار ملف النازحين لترجيح كفة خيار الدولة الرخوة والضعيفة والمخلخلة، وبين الإفراج عن الجغرافيا والنازحين لصالح الاستثمار في مفهوم الدولة القوية، وقد حسم الخيار الثاني، وفقاً لمعادلة أن الدولة الرخوة لا تستطيع أن تضمن التزاماتها، والدولة القوية وحدها تفعل ذلك، وفي منطقة الزلازل التي تقع سورية في قلبها أثبت مفهوم الدولة القوية بعد كلّ الاختبارات أنه الأضمن حتى لخصومها من العبث بتماسكها والسعي لإضعافها، ولأنّ هذين العنوانين موضوع ربح كامل للرؤية الروسية توقع الأميركيون ربحاً موازياً في العنوانين الآخرين: وهما أولاً ضمان أمن «إسرائيل»، وعبر ثنائية العودة لفك الاشتباك وإبعاد إيران وحزب الله عن الجنوب لعشرات الكيلومترات، وثانياً منح الأميركيين فرصة إخراج إيران فريقاً خاسراً من سورية لتزخيم السعي الأميركي للفوز بالمواجهة الشاملة التي يخوضونها مع إيران، والحصيلة كانت واضحة بأنّ أمن «إسرائيل» كسب نصف المطلوب بقبول فك الاشتباك، لكن معطوفاً على تطبيق القرارات الأممية. وما يعنيه ذلك من تعطيل مشاريع ضمّ الجولان. وفي المقابل تعليق كلّ بحث بمستقبل وجود إيران وحزب الله، بصورة لا تمنح طمأنينة كاملة لـ «إسرائيل» ولا تمنح الأميركي الربح المرجو أصلاً. وهذا يعني أنّ المعادلة الجديدة في غرب المتوسط هي التسليم بالإدارة الروسية السياسية والأمنية. وهذا معنى التأكيد على مرجعية أستانة، مقابل ضمان تجنيب الأميركي الخسائر دون منحه فرصة تحقيق أرباح.
– المنطقتان اللتان قاتلت فيهما أميركا منذ سقوط جدار برلين، قبل ثلاثة عقود يوم تفرّدت بحكم العالم، ورمت فيهما بثقل مشاريعها، هما أوروبا وصولاً لحدود روسيا، وغرب آسيا وصولاً لحدود الصين، وفي هاتين المنطقتين تسلم بالدور المحوري لروسيا، على قاعدة ضمان الأرباح الأميركية في أوروبا ومنع الخسائر الأميركية في غرب آسيا. وهذا كله سينتظر نهاية الرهان الأميركي على مفعول التحالف السعودي الإسرائيلي بوجه إيران، وما يجري تحضيره في قلب هذا الرهان تحت عنوان صفقة القرن، وهو ما تعتقد موسكو أنّ مصيره الفشل، والمزيد من تصدّع وحدة الجبهة الأوروبية الأميركية. وبالتالي المزيد من مراكمة التأثير الروسي في أوروبا، والمزيد من التقارب الروسي الأوروبي، وفي المقابل المزيد من العقلانية الأميركية في فهم ماهية تعريف الخسائر، بصورة لا يبقى معها لـ «الإسرائيلي» فرص وهوامش للمناورة، تتيح التهرّب من استحقاقات تطبيق القرارات الأممية حول القضية الفلسطينية كسبيل وحيد لمنع الانفجار، الذي يشكل مجرّد منعه عنوان معادلة الحؤول دون المزيد من الخسائر الأميركية.