فك اشتباك دولي وإقليمي أم تشبيك؟: ناصر قنديل
– لا تزال محاولة الإنكار لسقوط المشروع الإمبراطوري الأميركي تتحكم بالقرار الذي يصنع السياسة الخارجية، رغم امتلاء الحملة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب بمعادلات من نوع نريد أن نعود الدولة العظيمة وسئمنا من دور الدولة العظمى، أو شعار أميركا أولاً، أو لسنا شرطي العالم، أو الحاجة لتفاهم عميق مع روسيا حول إدارة الأزمات الدولية. فالواضح أن السياسات الفعلية لإدارة الرئيس الأميركي، والتعيينات التي باتت عنوان إدارته، تقولان إن واشنطن محكومة برؤيا مخالفة هي الرؤيا التي يصر عليها القادة العسكريون ومعهم مجموعات الضغط التي تمثل الصناعات العسكرية، وهي رؤيا لا تزال تأمل بترميم موازين القوى المختلة ضد مصلحة واشنطن في ميادين المواجهة، رهاناً على الدور السحري لسياسة العقوبات .
– لا زال صناع القرار في واشنطن يعتبرون أن روسيا ليست دولة عظمى. والمعيار عندهم هو حجم الاقتصاد الروسي وحجم الطاقة الإنتاجية المنافسة في هذا الاقتصاد الذي لا يزال يشكل تصدير النفط والغاز والمواد الخام عماده الرئيسي. وهذا التوصيف الصحيح للاقتصاد الروسي تسطيح لفهم الموازين الدولية الجديدة، لأن واشنطن ذاتها ترفض الإقرار بمكانة الدولة العظمى للصين التي باتت منافساً لأميركا على مكانة الحجم الاقتصادي الأول في العالم وتتفوق عليها بثلاثة عناصر عظيمة الأثر، وهي عدد سكان يعادل خمسة أضعاف سكان أميركا، في ظل اكتفاء ذاتي استهلاكي لا تحلم أميركا بمثله، ونسبة نمو ثابتة لم تعرف مثلها أميركا منذ عقود، وطاقة مالية جعلتها المموّل الرئيسي لسندات الدين الأميركية. والحجة الأميركية لفرض الاعتراف بمكانة الدولة العظمى للصين هي أن الأثر الصيني في الملفات المتفجرة في العالم لا يزال محدوداً، وهذا صحيح، لكن تطبيق هذا المبدأ يجعل روسيا دولة عظمى بلا منازع. والجمع بين مكانتي الحليفين الروسي والصيني ومعهما حليف تتوهم واشنطن قدرتها على تحجيمه هو إيران، ليس مطلوباً أن يوصل الإدارة الأميركية لتوصيف أحد هؤلاء المنافسين والخصوم كدول عظمى، بل للإقرار بأن زمن الأحادية الأميركية قد ولى إلى غير رجعة، وأن ثمة محوراً دولياً يتكامل بقدراته الاقتصادية والعسكرية وتأثيراته في الملفات الحساسة في العالم يقول لا كبيرة للسياسات الأميركية، ويرتضي منح مقعده التفاوضي للرئيس الروسي بوجه الرئيس الأميركي الذي يقود حلفاً مقابلاً، لا يزال يفقد المنضوين تحت رايته. فهو خسر الدعم الأوروبي في الملف الإيراني، والدعم التركي في ملفات كثيرة، وبات يقود ثنائياً سعودياً إسرائيلياً، يتلقى الهزائم، وكان خير اختبار للوزن الأميركي الجديد، في التصويتين اللذين شهدهما مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة حول القرار الأميركي باعتماد القدس عاصمة لـ»إسرائيل».
– رغم الإنكار الأميركي لمكانة روسيا كمفاوض مكافئ بالمكانة والقدرة، يعترف الرئيس الأميركي بثلاثي الخصومة لبلاده، ويضع روسيا والصين والاتحاد الأوروبي في مكانة الأعداء. ويخرج الرئيس الروسي للقائه آتياً من قمة شانغهاي التي ضمته مع الرئيس الصيني وسجلت لأول مرة شراكة إيران وباكستان والهند. ويذهب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قمة هلسنكي وفي جعبته، الانتصارات السورية، كتعبير عن حرب سنوات طوال بين حلفي موسكو وواشنطن، وهو يدير تموضعاً هادئاً لكل من تركيا والاتحاد الأوروبي إلى خط الوسط وربما أكثر.
– المسعى الأميركي في هلسنكي يشبه تماماً المسعى الإسرائيلي بعنوان فك الاشتباك. وهو فك للقوات على حدود الجولان تريده «إسرائيل» للحؤول دون فتح ملف احتلالها للجولان وتسييل فائض قوة الانتصارات والتحالفات التي واكبتها، وفي قلبها التحالف السوري مع روسيا وإيران وقوى المقاومة. لكنه فك اشتباك أوسع تريده واشنطن، بين الملفات التي هزمت فيها كحال سورية، وتلك التي تريد مواصلة المواجهة فيها أملا بتحقيق إنجاز كحال إيران، ومقابلهما ملفات تريد عوناً روسياً للفوز بها كحال كوريا، وملفات تلوح باستعمالها كحال أوكرانيا. بينما يذهب الرئيس الروسي حاملاً لمشروع التشبيك، ببناء قاعدة واحدة للملفات الدولية المعقدة، وهي العودة لإحياء دور المؤسسات الأممية وصيغ الشراكة والحوار والتسويات بدلاً من معادلات وهم القوة الذي لم تكن الهزيمة الأميركية في سورية إلا نموذجاً لسقوط رهان أوسع مدى من سورية بكثير.
– سيفشل ترامب في الحصول على فك اشتباك، وستسعى روسيا لتقديم تصور للحل في سورية يتيح تحولها نموذجاً لسائر الملفات، أسوة بما مثله النصر العسكري فيها من نموذج لفشل رهانات وأوهام القوة الأميركية. وبين التشبيك وفك الإشتباك مسار متعرّج وغامض يتيح حفظ ماء الوجه، وربما التأويل.