أميركا في سورية: تراجع فعلي أم مناورة خادعة؟: العميد د. أمين محمد حطيط
كثيرة هي الأسئلة التي طرحت عندما سرّبت المخابرات الأميركية موقفاً اتخذته القيادة الأميركية تجاه الجماعات المسلحة في الجنوب السوري، مفاده أنّ «على هذه الجماعات أن لا تعوّل على دعم أميركي لها في الميدان جنوب سورية في مواجهة الجيش السوري»، الذي شرع باتخاذ ما يلزم من تدابير تصالحية أو عسكرية لاستعادة الجنوب وتطهيره من الإرهاب والعودة الفاعلة الى خط فضّ الاشتباك في الجولان المحتلّ خط العام 1974 .
والسؤال الأساسي الذي طُرح: هل أميركا سلّمت فعلياً بأنّ مواقفها الهادفة إلى منع سورية من استعادة الجنوب لن تثني سورية عن تنفيذ قرارها الذي أعلنه بصراحة ووضوح الرئيس الأسد في أكثر من محطة، وأكد عليه مؤخراً بأنّ الجنوب سيُستعاد بالمصالحة أو بالقتال العسكري؟ وبالتالي هل رأت أنّ الانكفاء هو أسلم عاقبة وأقلّ خسائر، خاصة أنّ التلطي خلف مقولة وجوب احترام «مناطق خفض التصعيد» قد فقد قيمته وسقطت فعاليته بعد أن خرقت الجماعات المسلحة التي ترعاها أميركا، هذه المنظومة واعتدت على مراكز الجيش العربي السوري وحلفائه في الجنوب؟
أما الفرض الثاني أو السؤال، هل أميركا تريد أن تفصل الجنوب الغربي السوري عن الجنوب الشرقي، وتترك الأول لقرار الدولة السورية مهما كانت النتيجة حتى ولو كانت تحريراً كاملاً وعودة الى خطوط الجولان، وفتحاً للحدود مع الأردن، مقابل السكوت أو تأجيل أو تحييد القاعدة الأميركية في التنف لتبقى ورقة مساومة وضغط على سورية لدى البحث الجدي في مخرج سياسي للأزمة؟
ويبقى افتراض أو سؤال آخر لا يمكن تغييبه عن البال وينسجم عادة مع الطبيعة الأميركية في مواجهة الأحداث من وراء قناع، عندما لا تريد أن تتحمّل مسؤولية عمل ما ونتائجه، ويكون التنصّل الأميركي لفظياً وإعلامياً وتبقى أميركا في الميدان هي وأدواتها، بدعم مباشر للإرهابيين وعمل لإفساد المصالحات أو عرقلتها من دون أن تتهم بشيء من هذا التدخل العدواني.
إنّ الاختيار بين أيّ من هذه الفرضيات او الأسئلة حول الموقف الأميركي لا يمكن أن يحصل بمعزل عن عوامل أساسية هي التي تفرض على معسكر العدوان على سورية مواقفه. وأوّل هذه العوامل هو المشهد الأخير للميدان السوري على ضوء ما توصّلت إليه عمليات تطهير ريف دمشق وحمص وحماه والاتجاه للعمل في القطاعات الحدودية الأربعة المتبقية. وثانيها القرار السوري الحاسم والمدعوم من الحلفاء في محور المقاومة وروسيا لاستعادة السيطرة على تلك القطاعات، بخاصة في الجنوب لتعطيل العامل الإسرائيلي، لا بل وبتر اليد الإسرائيلية في الداخل السوري. وثالثها اعتبارات أميركية ذاتية تتصل بمسار السياسة الأميركية الترامبية في الشرق الأوسط.
ونبدأ من العامل الثالث، حيث إنّ ترامب أعلن عن انسحاب أميركي وشيك من سورية، وتتحضّر أميركا للإعلان عن «صفقة القرن» التي تصفّي عبرها القضية الفلسطينية وتثبّت «إسرائيل» في المنطقة في إطار حلف عربي صهيوني بقيادة أميركية لمواجهة إيران ومحور المقاومة. وبالتالي قد تكون هذه الحاجات الأميركية دافعاً للتراجع الأميركي عن مواجهة الجيش العربي السوري في الجنوب مع الاحتفاظ بقاعدة التنف كما أسلفنا وتجنّب مرحلي لأيّ احتكاك يُفسد على أميركا خططها المتصلة بأمن «إسرائيل».
أما في العاملين المتعلقين بسورية مباشرة، فإنّ أميركا تدرك ومن خلال ما حصل في السنوات السبع السابقة من المواجهة أنّ سورية لم تتراجع عن قرار دفاعي اتخذته مهما كانت الكلفة في التنفيذ، ثم أنّ سورية حشدت لتنفيذ قرارها ما يلزم من القدرات والوسائل التي تجعل قرارها في التنفيذ آمناً ومؤكد النجاح، ولا يمكن لأميركا أن تنسى حالات جوهرية محدّدة حصلت في شمال التنف أو في الغوطة الشرقية أو في منطقة الشرق من دير الزور إلى البوكمال وقبلها في حلب، حيث إنّ التهويل ثم التدخل الأميركي وإقحام مسرحية استعمال الكيماوي الملفّقة، كلّ هذا لم يثن سورية عن تنفيذ قرارها، ثم جعل النجاح السوري في الميدان، يمتدّ سلبياً على الموقف الأميركي وجعل أميركا في طليعة الخاسرين.
هذه الاعتبارات منفردة أو متكاملة مكّنت روسيا من استغلال الفرصة ومقاربة ملف الجنوب مع أميركا بشكل جعل الأخيرة تخطو خطوتين متتابعتين تصبّان في مصلحة عودة القوى الشرعية إلى الجنوب وإنهاء الوجود الإرهابي المسلح في المنطقة، تمثّلت الخطوة الأولى بموقف أميركي «ينصح الجماعات المسلحة بعدم استفزاز الجيش السوري» وإعطائه الذريعة للهجوم عليها وتكرار ما حصل في الغوطة، والخطوة الثانية كانت الموقف المفاجأة الذي بدأنا الحديث به. وهو الإعلان عن إحجام أميركا عن دعم هذه الجماعات في وجه الجيش السوري.
على ضوء ما تقدّم من حجج واعتبارات، فإننا نرى أو لنقل إننا نميل إلى القول بأنّ أميركا الآن جادّة فعلاً في الإحجام الظرفي عن دعم الجماعات المسلحة في الجنوب، لكننا لا نعتبر هذا الموقف هو الموقف النهائي القاطع، ويجب أن لا نفاجأ إذا تراجعت أميركا عنه وانخرطت في دعم الجماعات تلك مباشرة أو بشكل غير مباشر. وهنا نقول طالما أنّ أميركا لم تقلع حتى الآن عن سياسة إطالة أمد الصراع في سورية، ولم تسهّل العمل في الحلّ السياسي، فإنها تبقى في موقع السلبية الواجب الحذر منها، سلبية يؤكدها وجود غرفة الموك في الأردن التي تخطّط وتقود عمليات العدوان على سورية من الجنوب، وطبعاً بحضور أميركي «إسرائيلي» فاعل.
اذن لا ننفي أهمية القرار الأميركي بإبلاغ الجماعات المسلحة عدم المراهنة على الدعم الأميركي. وهو قرار أملته كما أوضحنا اعتبارات موضوعية وذاتية، وجاء في ظلّ متغيّرات ميدانية وقرارات سياسية وعسكرية سورية هامة كان فيها الإعلان عن التوجّه إلى الجنوب لتحريره وتحديد موعد انتخاب المجالس المحلية في أيلول المقبل. وهي اعتبارات وقرارات ما كانت لتكون لو لم تكن سورية تستشعر انتصارها على العدوان الذي استهدفها منذ نيّف وسبع سنين، إلا أنه ينبغي الحذر من الركون الى الموقف هذا. ولنتذكر دائماً انّ أميركا لا تعطي طوعاً. فهي لا تؤمن بحق سوى حق القوة، ومن فرض عليها بقوته شيئاً رضخت له، وإلا تبقى في غطرسة وعدوان ينتهك حقوق من رأت ضعفه وهوانه.
(البناء)