حروب ترامب التجارية
غالب قنديل
منذ حملته الانتخابية رفع دونالد ترامب شعار الحمائية الاقتصادية واظهر رفضا حادا لما تباهي به رؤساء الولايات المتحدة منذ جورج بوش الأب في التسعينيات من القرن الماضي من إنجازات واتفاقات دولية لإزالة العوائق من طريق التجارة العالمية.
شكلت العولمة بقيمها وتقاليدها رسالة الإمبراطورية الأميركية التي فرضت على العالم بأسره ان يرضخ لها وللقواعد التي سنتها واشنطن في تعميم سياسات فتح الحدود امام البضائع والرساميل والأموال في جميع انحاء الكرة الأرضية تعميما لقيم الرأسمالية النيوليبرالية التي زعمت خرافة الانتصار الأميركي في الحرب الباردة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي أنها القيم التي فازت بالمباراة الكونية على القيم القومية والاشتراكية.
وكأنما شاء التاريخ وعلى يد رئيس اميركي ينعت بالجهل والجلافة تأكيد قواعد الديالكتيك الماركسي فجاء نهجه نفيا صاعقا لنفي العولمة للحدود الجمركية وللدول القومية في وجه السلع والرساميل وقد شرع يشيد الجدران واتخاذ التدابير الصارمة باسم الشريحة الرأسمالية الأميركية التي لم تندمج بالشركات متعددة الجنسيات ووجدت منتجاتها تواجه منافسة إغراقية من السلع الوافدة إلى سوق مفتوحة وبعض تلك السلع الوافدة انتجها اميركيون اختاروا نقل معاملهم إلى الدول الأقل كلفة وخصوصا إلى الصين وما يعرف بنمور آسيا.
كان تركيز ترامب على استهداف الصين بتدابيره الحمائية وبدا أنه تعمد تدشين حربه التجارية بالمنافس الأشد قوة وتأثيرا كإنعكاس لطاقة الاقتصاد الصيني الإغراقية كما ونوعا وبصورة تغطي قوائم من مئات السلع والبضائع التي يطلبها الأميركيون ويقبلون عليها وقد اضطر الرئيس الأميركي في الحصيلة ونتيجة الرد الصيني العاجل إلى قبول تسوية مع بكين لكنه اعتبر نتيجة الجولة التي وقعت من الحرب التجارية مع الصين لمصلحة توجهاته وتصحيحا لخلل سابق ارتضته حكومات أسلافه وتكيفت معه تحت عنوان العولمة وهكذا استعرض دعائيا وبكل ثقة حجم الوظائف التي قال إنه تمكن من حمايتها بفعل الاتفاق مع الصين الذي نسب إليه منع انهيار المزيد من المصانع الأميركية المهددة.
كان الاتحاد الأوروبي منذ البداية قلقا من نتائج الحمائية الأميركية التي هددت على الفور وحدة المعسكر الغربي وقد أطلق ترامب حربه التجارية نحو الغرب الأوروبي سريعا من خلال الرسوم المضاعفة على الحديد والألمينيوم لكنه زحف بها لتطال جميع السلع التي يصدرها الأوروبيون الذين لمسوا نهجا أميركيا جديدا فقد سبق لهم الخضوع خلال العقود الماضية للإملاءات الأميركية المبنية على قيادة الولايات المتحدة للمعسكر الغربي وهذا ما يفسر رضوخ الدول الأوروبية للعقوبات الأميركية ضد إيران وروسيا رغم تحولها إلى عقاب شديد الوطأة ضد ألمانيا وفرنسا بشكل خاص.
غير آبه بروابط الحلف الأطلسي او بالشراكة الأميركية الأوروبية التاريخية ضمن منظومة الغرب الاستعماري قدم ترامب نموذجا لتوجه اميركي انعزالي بدوافع اقتصادية تختصر مثالب العولمة وتعكس تمرد شرائح واسعة من البرجوازية الأميركية على موجة “عالم بلا حدود” التي روج لها بصورة استثنائية الرئيس الأسبق بيل كلينتون ومن بعده جورج دبليو بوش وكذلك باراك اوباما وقد صعد الأخيران ما سمي بالعولمة العسكرية التي يواصل ترامب المضي على طريقها بنسخته القومية المتشددة والإلحاقية اتجاه الحلفاء التقليديين.
بعد المشادة الجمركية والتجارية على الأرجح ستسفر المعارك عن تسويات تعدل جداول التبادل عبر الأطلسي لكن الأهم هو ان النزعة الحمائية الترامبية تثير ردود أفعال من طبيعتها وهي تغزو العديد من دول الغرب بنسخ خاصة تحمل الملامح الوطنية ويبدو بكل وضوح ان مخاضا سياسيا يجري في هذا الاتجاه داخل عدد من الدول وخصوصا في إيطاليا والبرتغال وبريطانيا وأسبانيا بعد اليونان وتتفشى دعوات الخروج من الاتحاد الأوروبي مقابل التصميم الألماني والفرنسي الثابت حتى الآن على المضي بمسيرة توحيد القارة العجوز والتمسك بضم دول اوروبا الشرقية التي تعتبر عبئا كبيرا في نظر العديد من الخبراء والساسة الأوروبيين وهي عمليا نطاق منافسة جدية مع روسيا بذاكرة الفناء التاريخي للإمبراطورية الروسية وبقوة الرابطتين السلافية والأرثوذكسية.
حروب ترامب التجارية ستخلف نتائج كبيرة في العالم برمته وستكون لها تداعيات في كل مكان وبداية وبداهة هي تجتاح الغرب وتهدد وحدته التي اعتبرت منذ الحرب الكونية من بديهيات الوضع الدولي.