قمة سنغافورة وإنجازها الملتبس ريتشارد هاس
يتعذر مع تصوير دونالد ترامب لقاءه بالزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، على أنه نجاح عظيم يحل المشكلة النووية، الحفاظ على الدعم الدولي للعقوبات الاقتصادية التي لا لم تنتفِ الحاجة إليها للضغط على كيم. ولا شك في أن إضعاف فرص بلوغ المرء أهدافه (وهو ما يقوم به ترامب) ليس من صفات المفاوض الحذق والقوي. وسرعان ما عاد الرئيس الأميركي من اجتماع القمة القصير الذي عقده في سنغافورة مع الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، الى التغريد قائلاً: «يسع الجميع أن يشعروا بأمان أكبر مقارنة باليوم الذي توليت فيه منصبي… تبدد التهديد النووي الكوري الشمالي». وأبلغ في وقت لاحق الصحافيين بأنه «حل المشكلة». ولكن ما زعمه ترامب غير صحيح. فمصدر التهديد النووي كوري الشمالي على حاله ولم يتبدد، والبيان المشترك الذي صدر عن الزعيمين كان مختصراً وغامضاً، يقتصر على 391 كلمة.
ومعظم ما تضمنه البيان اقتصر على التطلعات وليس الإنجازات. والتزمت كوريا الشمالية فحسب «بالسعي الى خلو شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي». وخلا البيان من أي تعريف لما يقصد به على وجه التمام بـ «نزع السلاح النووي». ولم يشر البيان كذلك إلى الجدول الزمني للتنفيذ، أو إلى وسائل التحقق من تنفيذ التعهدات. أما القضايا الأخرى الوثيقة الارتباط بالأسلحة النووية، ومنها الصواريخ الباليستية، فلم تذكر حتّى. وعليه، ليست في محلها مقارنة الاتفاق مع كوريا الشمالية بالصفقة النووية الإيرانية- وسبق أن ندد ترامب بالصفقة هذه وانسحب منها قبل شهر من لقائه كيم.
وما تقدم لا يُقصد به أن قمة سنغافورة تافهة ولا قيمة لها. فعلى أقل تقدير، صارت العلاقات الثنائية أفضل مما كانت عليه قبل عام، عندما كانت كوريا الشمالية تجري تجارب نووية وصاروخية، وكان شاغل المراقبين (بمن فيهم أنا) احتساب احتمالات الحرب بين الدولتين، وذواء فرص السلام. وثمة أمل في أن يتوصل البلدان في المستقبل إلى اتفاق يتناول عدداً من المسائل والتفاصيل التي لم يتطرق لها بيان قمة سنغافورة. لكن تحويل هذا الاحتمال إلى حقيقة أو واقع، بالغ الصعوبة وشبه متعذر. وثمة دواع كثيرة تسوغ الشك في مبادرة كوريا الشمالية إلى التخلي عن الأسلحة التي كانت الجسر إلى انتزاع الحق في معاملة واشنطن الندية لها. وتجربة أوكرانيا- وهي الدولة التي تخلت عن أسلحتها النووية مقابل الاعتراف الدولي بها واحترام الجيران لحدودها وسيادتها- ماثلة، وهي الشاهد على شلل المجتمع الدولي أمام ضم روسيا شبه جزيرة القرم. والسابقة هذه لن تحفز كيم جونغ أون على الاحتذاء على أوكرانيا. والأمر نفسه يصح في ما جرى في ليبيا ومصير العقيد معمر القذافي. والشك في محله في احتمال سماح كوريا الشمالية- ويمكن القول إنها أكثر دول العالم تقوقعاً وانغلاقاً- بعمليات التفتيش الدولية الشاملة والمتطفلة التي لا غنى عنها للتحقق من امتثالها لتعهدات قد تنص عليها الاتفاقات المستقبلية.
ويبدو أن ترامب يرى أن التغلب على كيم ببساطة من طريق التهديد والوعيد فحسب متعذر، وأن لا مفر من اللجوء إلى الإطراء والوعود. وأصدر البيت الأبيض شريط فيديو مدته أربع دقائق يظهر تحول كيم شخصية تاريخية كبيرة إذا تغيرت سياسته. وذهب الفيديو إلى أبعد مدى لإظهار ما يمكن لكوريا الشمالية أن تكسبه اقتصادياً إذا لبّت المطالب الأميركية. وذهب الرئيس إلى أن الشمال مكان واعد للتطوير العقاري والسياحي. لكن يبدو أن ترامب لم يفطن إلى أن مثل هذا المستقبل يحمل مخاطر وتهديدات غير واعدة في عين شخص حكمت أسرته بقبضة حديدية طوال ثلاثة أجيال. فما إن تشرع كوريا الشمالية أبوابها أمام رجال الأعمال الغربيين ستنفتح على الأفكار الغربية. ويترتب لا محالة على مثل هذا الانفتاح اضطرابات شعبية.
ولا ينفك ترامب يؤكد على أهمية العلاقات الشخصية، كما زعم أنه طور علاقة مع كيم في غضون ساعات. وتحدث أكثر من مرة عن ثقته في الزعيم الكوري الشمالي، وهذا سجله قاتم وطويل في قتل خصومه (ومنهم عم وأخ). ومقاربة ترامب هذه قلبت شعار رونالد ريغان، «ضع ثقتك (في الخصم) لكن تحقق (من أمره)»، رأساً على عقب، وكأن اللواء الذي يرفعه ترامب هو «لا تتحقق من شيء، وامنح ثقتك».
والحق يقال ساهم بعض ملاحظات ترامب في ختام القمة وما بعدها، في إضعاف احتمالات بلوغ أهدافه. وتصويره للقمة على أنها نجاح كبير حل المشكلة النووية سيجعل من الأصعب الحفاظ على الدعم الدولي للعقوبات الاقتصادية في سبيل حمل بيونغيانغ على الامتثال للقوانين الدولية. ولا يصب في مصلحة أميركا إعلانه من جانب واحد، وقف الولايات المتّحدة الأعمال الحربية «الاستفزازية»، على قوله محاكياً عبارة الخصم- وهذه «الأعمال الحربية العدائية» درجت واشنطن على وصفها بالتدريبات العسكرية التي تهــــدف إلى ضمان الاستعداد وتعزيز الردع. وعليه، لم يزعج ترامب عدداً كبيراً من حلفاء الولايات المتحــــدة فحسب، بل تنازل عما كان يمكن أن يفاوض به كوريا الشمالية ويساوم عليه. والخطر الأبرز هو فشل المفاوضات اللاحقة جراء هذه الأسباب كلها، في نزع السلاح النووي الشامل في كوريا الشمالية والقدرة على التحقق منه. وأعلنت الولايات المتحدة أن نزع السلاح النووي مرتقب في المستقبل القريب. ومن المرجح أن يتهم ترامب كيم بخيانة ثقته حين لا تتحقق نبوأته.
وفي هذه الحال أمام الولايات المتحدة ثلاثة خيارات: الصدوع بنزع غير كامل للسلاح النووي- وهي النتيجة التي قال ترامب وكبار مساعديه أنهم سيرفضونها، أو فرض عقوبات أكثر صرامة يستبعد أن تنضم إليها الصين وروسيا (بعد انفراط عقد الضغط الدولي)، أو التلويح من جديد باستخدام القوة العسكرية- وهذا ما لن تقبل به كوريا الجنوبية، على وجه التحديد. ولكن إذا استنتج ترامب أن الديبلوماسية أخفقت، قد يلجأ إلى العمل العسكري، وهو ما اقترحه جون بولتون قبل أن يصبح مستشاراً للأمن القومي. وهذا أكثر الاحتمالات رجحاناً، على رغم أنه أبعد ما يكون من البصمة التي تبجح بها ترامب بعد قمة سنغافورة، وعلى رغم تغريداته المتفائلة التي قد تقود المرء إلى التصديق.
الكاتب رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي
عن موقع «بروجيكت سينديكايت»