خفض الضرائب يعيق النمو الاقتصادي أم يحفزه؟
حميدي العبدالله
منذ انتصار الرأسمالية وتحوّلها إلى نظام اقتصادي سائد يعمّ أرجاء العالم، دار سِجال بين الاقتصاديين، وعلى مستوى الحركات السياسية والاجتماعية حول تأثير الضرائب. الأحزاب اليمينية تبنّت مواقف متناقضة من هذه المسألة، فهي مع خفض الضرائب إذا كانت هذه الضرائب تستهدف الأغنياء والشركات، ودائماً كانت تردّد مقولة إن الضرائب العالية توثر سلباً على النمو الاقتصادي دون أن توضح كيف يحدث ذلك باستثناء تكرار مقولة “آدم سميث” عن يد الاقتصاد الخفية، ولكنها في المقابل، ولاسيما في البلدان النامية، كانت الأحزاب اليمينية تسعى إلى تمويل خزينة الدولة من أموال الفقراء عن طريق الضريبة غير المباشرة، ولعل هذا ما اعتمده صندوق النقد الدولي كنهج دائم وثابت وسعى إلى فرضه على الدول النامية وكان ذلك وراء خراب اقتصاد هذه الدول وسبباً لكل الاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي حدثت ولا تزال تحدث في البلدان النامية، ولعل ما يجري الآن في الأردن آخر تجليّات وصفات صندوق النقد الدولي. هذا مع العلم أن الاقتصادي الأمريكي الشهير والمرموق والذي خدم في عهد الرئيس بيل كلينتون بوصفه كبير الخبراء الاقتصاديين، والحائز على جائزة نوبل للاقتصاد جوزيف ستيغليتز، قد دحض هذه المقولة التي يروّج لها صندوق النقد الدولي وكرّس لها أكثر من فصل في كتابه “خيبات العولمة”. ولكن بعض الاقتصاديين وقوى اليسار حاججت دائماً إلى جانب النقابات العمالية بأن خفض الضرائب عموماً يقود إلى النمو الاقتصادي ولن يترك أي انعكاسات سلبية. وبديهي كان هذا المعسكر يستند على حجج أبعد بكثير وأكثر وضوحاً من “يد الاقتصاد الخفية”. كان الاعتقاد أن الاقتطاعات الضريبية الهائلة، ولاسيما إذا كانت على حساب الشرائح الأوسع من المجتمع، وهي الفئات غير تلك الأكثر ثراءً، من شأنها أن تُضعف القدرة الشرائية لدى غالبية المجتمع، وإذا ما عمّت دول العالم فإن غالبية سكان الكرة الأرضية ستتراجع قدرتهم الشرائية، وهذا بديهي سينعكس سلباً على قوة الطلب. ويحصل ما يشبه الركود الاقتصادي، وينعكس ذلك سلباً على مجمل أداء الاقتصاد، بما في ذلك معدلات النمو، فيما خفض الضرائب، وتحديداً الضرائب التي تطال أكثر شرائح المجتمع اتساعاً من شأنه تعزيز القدرة الشرائية وتقوية الطلب، وبالتالي حفز النمو الاقتصادي .
أكثر من ذلك تقوم النظرية الكنزية في الاقتصاد على محاربة الركود من خلال إنفاق الدولة، سواءً على البنية التحتية، أو على الخدمات الاجتماعية، لأن توفر سيولة لدى فئات واسعة من المجتمع يدفعها لتقوية الطلب، وبالتالي حفز النمو الاقتصادي.
هذا السِجال بين الفريقين لم يُحسم على امتداد تاريخ الرأسمالية، جرت العادة أن يستقوي فريق على فريق آخر، ولكن في النقاط ولم تُحسم هذه المسألة لأنها تعكس صراع مصالح بين فئات اجتماعية يصعب التوفيق فيما بينها. فالأغنياء همهم الأول والأخير زيادة ثرواتهم والسبيل إلى ذلك خفض الضرائب المباشرة، والفقراء همهم الأساسي أن لا يكون تمويل الخزينة من جيوبهم وهم الفئة الأكثر كدحاً والتي لا تنال من العائدات الاستثمارية ما يجنيه الأغنياء، وقد يستمر هذا الصراع ما دامت الرأسمالية تتربع على عرش النظام الاقتصادي العالمي.
لكن صحيفة “واشنطن بوست” ودورية “بلومبيرغ” الأمريكيتين نشرتا مقالاً سلّط الضوء على أثر الضرائب على خزينة الدولة، ولكن من زاوية تختلف عن تلك التي اعتاد الاقتصاديون على مقاربة الضرائب من خلالها. أي تأثير خفض الضرائب وتوحيدها على خزينة الدولة. وتتضمن الدراسة القصيرة وقائع تبدو مقنعّة، مثلاً في إيطاليا “تطبّق حالياً خمس فئات من الضريبة على الدخل تتفاوت من 23% إلى 43%” وبعد تشكيل الحكومة الجديدة اقترح الائتلاف الحاكم الجديد “تقليص الضرائب إلى فئتين لتكون فئة نسبتها 15% والأخرى 20%”. وواضح أن الدافع إلى ذلك هو أن أحزاب الائتلاف الجديد هي أحزاب يمينية وتعبّر عن مصالح وتطلعات الأغنياء في إيطاليا.
لكن الدراسة تلحظ جانباً إيجابياً لهذا الاقتراح لا يتعلق بدوافع الأحزاب اليمينية، بل يرتبط بقضية أخرى وهي التهرب الضريبي. حيث لإيطاليا “تاريخ طويل من سوء الالتزام وسوء التطبيق”. الدراسة تعتقد أن خفض الضرائب وتوحيدها يحدّ من التهرب الضريبي، وبالتالي يقود إلى رفد خزينة الدولة بأموال نسبتها أعلى من النسبة التي تحصل عليها الخزينة في ظل الضرائب المرتفعة.
تستند الدراسة في دعم اقتراحها خفض الضرائب إلى التجربة الروسية، فيقول معدّ الدراسة “ليونيد بيرشديسكي” ويبدو أنه من أصول روسية «روسيا أجرت إصلاحاً ضريبياً عام 2001 ألغت بموجبه نظاماً ضريبياً تصاعدياً على الدخل يعود إلى بداية التسعينات وجعلت الضريبة نسبة ثابتة تبلغ 13% وأدى الإصلاح إلى زيادة في العائدات، ففي العام 2002، أي في العام التالي للعمل بنظام الضريبة الثابتة، نما الاقتصاد بنسبة 5%، فيما زادت عائدات الضرائب على الدخل بأكثر من 25%». ويقول معدّ الدراسة بعد ذلك حذت عشرين دولة حذو روسيا. ولكن الكاتب يعترف بأن دراسات «طعنت في كفاءة هذه البرامج»، وعلى أية حال يمكن القول إن روسيا ودول أوروبا الشرقية لا تشكل مثالاً صالحاً لأن في هذه الدول غابت الدولة الحقيقية لصالح أفراد مرتبطين بشركات عالمية وحدثت أكبر عملية نهب بالتاريخ، ولا يمكن الحُكم على صلاحية هذا المثال في دول حكمتها مافيا الفساد والنهب لمدة تزيد عن عقد ونصف، وكان نتيجتها ولادة أكبر وأوسع طبقة مليونيرية من نهب ثروة المجتمع.