بقلم ناصر قنديل

الأسد و”الفالق الاستراتيجي”: ناصر قنديل

تستحوذ المواقف الشجاعة في الصمود والثبات وخيار المواجهة على صورة الرئيس السوري بشار الأسد لدى حلفائه ومحبّيه، والصورة نفسها تجري شيطنتها لدى أعدائه فتصير قسوة وصولاً لحدّ الإجرام، وتوازيها صورة الوطنية الصافية والعروبة الخالصة والعلمانية المدنية، لتقابلها في الشيطنة صورة التبعية لروسيا أو لإيران والتشيّع الطائفي، لكن في الحالتين تغيب صورة المفكر الاستراتيجي الذي يستحقّ التوقف والتمعّن من الصديق والعدو. فالمحبّ يُنصف ويطمئن عندما يتيقن من هذا العمق الاستراتيجي للركن الرئيسي في صياغة مسار حرب مصيرية في المنطقة والعالم. والعدو ربما يُعيد حساباته وينظر بعقلانية عندما يقرأ بعين أخرى، وربما ينجح بتفادي رهانات خاسرة وحسابات خاطئة .

قبل الحرب على سورية، وربيع الغرب في بلاد العرب، قرأ الرئيس الأسد حال الفراغ الاستراتيجي الناجمة عن الأزمات التي لحقت بالدور والوجود الأميركيين في المنطقة، قارئاً وجود تحوّل كبير في معادلات الجغرافيا السياسية وعلومها، بحيث لم تعُد المناطق الإقليمية تُبنى بالحدود البرية كالجبال والصحاري، مستنتجاً سقوط مفهوم الشرق الأوسط الذي جرى التعامل معه كمنطقة إقليمية لها مواصفاتها ومعايير الحركة فيها، مورداً البديل لمفهوم الأقاليم الجديدة، بالحدود المائية، البحار والممرات المائية الضخمة، مقدّماً صياغته لمنطقة إقليمية تحلّ مكان مفهوم الشرق الأوسط هي منطقة البحار الخمسة، التي يحدّها بحر قزوين والبحر الأسود والخليج والبحر المتوسط والبحر الأحمر، وفيها تصير روسيا وإيران وتركيا ودول أوروبا المتوسطية شركاء في إقليم جغرافي واحد، مخاطره واحدة ومصالحه متقاربة، داعياً لمنظومة تعاون إقليمية بين قواه الكبرى لحفظ الأمن وقيام التعاون الاقتصادي.

عملياً تجاهل الأميركيون هذا المفهوم، وأصرّوا على المفهوم التقليدي القديم، فأوروبا وروسيا دول عظمى معنية بالإقليم القديم، أيّ الشرق الأوسط بقدر أميركا، وشركاء بالقدر ذاته مع فارق القوة والأحجام، وكانت الحرب على سورية، التي قالت في خواتيمها تباعاً منذ خمس سنوات على الأقلّ، إنّ اميركا تبقى «برانية» عن هذا الإقليم. وها هي تسحب أساطيلها. وإنّ أوروبا جزء عضوي من الإقليم مهما حاولت مسايرة أميركا، فهواجسها تبدأ ديمغرافية وسكانية وتنتهي أمنية واقتصادية. وها هي في قضية الملف النووي الإيراني تجد نفسها مُجبرة على التمايز لهذه الاعتبارات التي طالما أنكرتها وتجاهلتها. وأنّ تركيا مهما كابرت، فهي لن تستطيع مواصلة السير على خط ترسمه واشنطن لم يكن ولن يكون معنياً باستقرار هذا الإقليم الذي تقع تركيا في قلبه وتجمعها بكياناته مصالح عليا موحّدة يتقدّمها الحفاظ على وحدة الكيانات. وها هي تكتشف بعد مغامرات ومقامرات خطيرة، ونصف استدارة، أنّ عليها إعادة النظر بالكثير، وستكتشف أكثر. وها هي روسيا التي تمّ التعامل معها كقوة خارجية وافدة إلى إقليم أجنبي عنها، تكتشف تشابك المصالح والمخاوف. ويكتشف الأميركي الذي ينطلق من تفوّقه عليها لاستنتاج أنّ هذا التفوّق يسري في كلّ مكان، أنه تفوّق محكوم بالجغرافيا، فحيث لا يجرؤ الأميركيون على مواصلة التدخل يجرؤ الروس، ومنشأ القضية كان ولا يزال، الفكرة الاستراتيجية المسمّاة بمنطقة البحار الخمسة.

في مرات سابقة وفي سياق معالجته لفكرة الحرب على سورية وتحذيره للغرب من المبالغة بالعبث، أورد الرئيس الأسد معادلة وقوع سورية على فالق الزلازل، وهو نصّ استراتيجي في علم الجغرافيا السياسية، يرى أنّ ثمة كيانات مفاتيح في جغرافيا العالم بحكم تكوينها التاريخي وطبيعة موقعها الجغرافي، وحساسية تموضعها السياسي على ضفاف الأحلاف والجبهات، وأنّ سورية مثال على هذا النوع من الكيانات. وأنّ الأمر لا يرتبط فقط بقربها وتشابكها مع دول إقليمها الجديد، البحار الخمسة، بل بخصوصيتها بينها، وبلدان الفالق الزلزالي، هي البلدان التي يترتّب على كلّ تغيير فيها سلسلة تغييرات مشابهة تصيب بالتتابع الدول المجاورة لها، دون قدرة على توقّع حدود توقف الموجات الزلزالية، ليصير ثمّة ما يمكن تسميته بلعنة سورية، يجب أن يؤدّي السعي لتفاديها، سبباً لعدم العبث بمستقبلها وتوازناتها، وهو عنصر ردع تكويني بنيوي، يحميها بما لا يقلّ أهمية عن مصادر قوتها.

يُعيد الرئيس الأسد اليوم إنعاش ذاكرة الغرب وأوروبا، خصوصاً بمفهوم الفالق الزلزالي، فتقسيم سورية بعبث بتركيبة الطوائف والأعراق، سيعني تقسيم تركيا والعراق والسعودية، وربما يسير الفالق الزلزالي لما هو أبعد، فتنقسم دول البلقان المتشققة أصلاً، من بوابة الفالق الأوكراني، وتنهار الكيانات الموحّدة في شرق أوروبا وقد تنتقل العدوى بمسمّيات جديدة في غربها، من بوابة الفالق الألماني والاسكندينافي. ومثله العبث بالأمن والاستقرار سيحمل كتلة سكانية وازنة على الهجرة والنزوح وستكون قبلتهم أوروبا، وسيصبحون مصدراً لأزمة تفوق قدرتها على الامتصاص والاحتواء، ومثله العبث بالجغرافيا السورية واستسهال التموضع فيها، تحت عناوين شتى سينشئ من الشيء ضدّه، فها هو التموضع التركي يجسّم المشكلة الكردية فتصير مشكلة لتركيا أكبر من عائد وجودها، ومثلها كيان الاحتلال مذعور من وجود قوى المقاومة التي تجذرت بمفاعيل موازية لعبثه بالجغرافيا السورية ونظرياته عن الحزام الأمني كمصدر لمزيد من وهم الحماية، ومثل كلّ ذلك العبث في الاستثمار على الإرهاب، بوهم حصر أضراره على سورية وفيها، واستنزافها بواسطته حتى تخضع، فما خضعت سورية، وصار الإرهاب مشكلة الغرب بمقدار أعلى من خطورته على سورية، التي تمكّنت منه أو تكاد.

– تشكل معادلتا البحار الخمسة والفالق الزلزالي بعضاً من معادلات نظرية في علوم السياسة والاستراتيجية، لن يحسن الغرب التعامل مع سورية ورئيسها دون أن يفهمها، كما كانت نظرية التوازن الاستراتيجي مع كيان الاحتلال التي وضعها الرئيس الراحل حافظ الأسد، وكانت في أساس استثماره على العلاقة بإيران وتبنيه خيار المقاومة ودعمها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى