مخاطر تصاعد التوتر في بحر الصين الجنوبي د.منذر سليمان
منذ إعلان قيام جمهورية الصين الشعبية، 1947، عززت بكين (بيجينغ لاحقاً) سيادتها على أراضيها ومياهها الإقليمية بما فيها ما يقرب من “نحو 95% من مياه بحر الصين الجنوبي،” ولم تبرح يوماً عن التوقف لمطالبها باستعادة اراضي وشواطيء بلادها لا سيما في هونغ كونغ وجزيرة تايوان، ومناطق أخرى خضعت للاحتلالات الأجنبية بما فيها مضيق ملقا بالغ الحساسية والحيوية في التجارة البحرية.
للدلالة على أهمية “بحر الصين الجنوبي،” نسوق ما نشرته “وكالة صوت أميركا” الموجهة لدول العالم بأن المنطقة تبلغ مساحتها نحو 3.5 مليون كلم2 يحتوي باطنها الغني على احتياطات هائلة من النفط والغاز الطبيعي “تقدرها البيانات الأميركية بأنها تساوي مخزون ما تمتلكه المكسيك، وربما تحتل المرتبة الثانية بعد السعودية” من الثروات الطبيعية. وتضيف الوكالة أن تلك المنطقة “المتنازع عليها قد تضحي ذات اهمية استراتيجية بالغة لممر مائي في القرن الحادي والعشرين.”
بعد استكمال بيجينغ برامجها التنموية وبناها التحتية وتوصلها لاتفاق يعزز سيادتها يقضي بتخلي بريطانيا عن سيطرتها على هونغ كونغ، نمت قدرات الصين، العسكرية والإقتصادية، لتترجم سياسيا ببسط نفوذها في مياهها الإقليمية واستمرار المطالبة بعودة جزيرة تايوان لحضن الأم.
تعتبر منطقة بحر الصين الجنوبي بؤرة تنافس بين أمريكا والصين، الأولى تسعى لتحجيم الثانية إقليميا ودوليا، وتضم ممرات دولية مهمة كممر “سوندا،” الذي يصل جنوب شرق آسيا بأستراليا؛ وممر “لومبوك،” الذي يربط إندونيسيا بالمحيط الهندي؛وممر مضيق “ملقا” ذو أهمية اقتصادية واستراتيجية لربطه المحيط الهادئ بالهندي ويمتد لمسافة 800 كم بين ماليزيا وجزيرة سومطرة الإندونيسية، وتمر منه حوالي 40% من البضائع العالمية و 50% من تجارة النفط والغاز العالمية؛ ويعد فائق الأهمية بالنسبة للصين والهند لعبور بضائعهما شرقا وغربا.
أهمية “مضيق ملقا” للصين دفع البعض لوصفه بالعقدة التي تضمن أمن الطاقة الصينية لقربه من سنغافوره وماليزيا والهند، التي بمجموعها تخشى إغضاب الولايات المتحدة، ومن يسيطر على المضيق ” يستطيع التحكم بممرات ومسالك الطاقة الصينية.”
تبلور التوترات الإقليمية بين الصين ودول مجاورة، بعضها يسبح في الفلك الأميركي ويستمد قراره من واشنطن، أدى بمطالبة واشنطن لبيجينغ الالتزام بالمعاهدة الدولية لقانون البحار، التي وافقت عليها واشنطن لكنها لم تصادق عليها كمعاهدة ملزمة. وسعت تدريجيا لإذكاء نيران التوتر بين بيجينغ والدول المجاورة للحد من نفوذ الأولى والحفاظ على ترسانتها الحربية في المياه الاقليمية وقواعدها العسكرية على اليابسة هناك.
واشنطن من جانبها لم تبرح عن تعزيز تواجدها العسكري في المنطقة “للحد من نفوذ الصين،” وجاء على لسان عدد من مسؤوليها العسكريين والسياسيين، على السواء، بأنها تنوي توسيع حضور اسطولها في المحيط الهاديء وزيادة قواتها المرابطة هناك بنحو 30% مع حلول عام 2021.
تجسد “التحرش” الأميركي بالصين منذ بدء الألفية في عهد الرئيس جورج بوش الإبن بحادث اصطدام جوي بين طائرة تجسس أميركية ومقاتلة صينية بالقرب من جزيرة هاينان. وفي الأشهر الأولى لاعتلاء الرئيس باراك اوباما منصبه في البيت الأبيض، جابت سفية تجسس أميركية، يو أس ايمبيكابيل، مياه جزيرة هاينان وتصدت لها البحرية الصينية وطالبتها بالخروج من هناك. الرد الأميركي لم يتأخر وقام الرئيس اوباما بإرسال مدمرة أميركية على متنها صواريخ موجهة “لتوفير الحماية” لسفينة التجسس معللاً ان لبلاده “الحق في التواجد هناك.”
وزير الدفاع الأمريكي السابق آشتون كارتر يوم 29/5/2015 صرح في بدء رحلته الآسيوية بلهجة تحدٍّ للصين: “كنا نحلق فوق بحر الصين الجنوبي لسنوات وسنوات، وسنستمر بذلك؛ سنحلق ونتنقل وننفذ عمليات، وهذه ليست حقائق جديدة”. ودعا إلى “إنهاء الأعمال التي تنفذها الصين وغيرها من الدول في البحر وعدم إضفاء طابع عسكري على النزاع الإقليمي“.
المتحدث باسم البنتاغون، ستيف وارين، أعلن يوم 26/5/2015 عن “الخطوات القادمة للولايات المتحدة للدفاع عن حرية الملاحة في المنطقة بتسيير طلعات جوية للمراقبة وإرسال سفن حربية تجول هناك” التي تعتبرها الصين مجالها الجوي والبحري.
صحيفة غلوبال تايمز، الناطقة باسم الحزب الشيوعي الصيني باللغة الإنكليزية قالت يوم 25/5/2015 في افتتاحيتها إنه “ينبغي على الصين الاستعداد بحذر لاحتمال نشوب صراع مع الولايات المتحدة .. نشوب حرب بين الولايات المتحدة والصين في بحر الصين الجنوبي أمرا حتميا. قوة الصراع ستكون أكثر مما يعتبره الناس احتكاكا“.
من أبرز خصائص عهد الرئيس دونالد ترامب شنه “حرباً تجارية” على الصين وحلفاء بلاده ومنافسيها على السواء، مما ينذر بعودة “الحرب الباردة” إلى الصدارة، عند الأخذ بعين الاعتبار تصميم واشنطن وحلف الناتو على “تحدي الصين عسكرياً” في مياه بحرها الجنوبي؛ لا سيما إذا نظرنا لحجم التجارة الهائل العابر لتلك المنطقة والذي يعادل ثلث مجمل التجارة البحرية العالمية تقدر قيمتها بنحو 5000 مليار (5 تريليون) دولار.
دشن ترامب فترته الرئاسية بالموافقة على قيام البحرية الأميركية، شهر أيار الماضي، بتسيير دوريات “لحماية حرية الملاحة” بالقرب من الجزر الإصطناعية الصينية، مما اثار حقيظة بيجينغ. وإمعانا في ايصال رسالتها العدوانية، حشدت واشنطن كلا من لندن وباريس لزيادة حضورهما العسكري إلى جانبها وقرب ارسالهما لقطع حربية إلى المنطقة “المتنازع عليها،” في سياق تعزيز دور حلف الناتو.
سيّرت فرنسا خمس قطع بحرية على الأقل في مياه بحر الصين الجنوبي العام الماضي، وفق تصريحات وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورانس بارلي. تعتزم بريطانيا إرسال 3 سفن حربية للمنطقة العام الجاري. واشنطن، من جانبها، تبقي على حاملات طائراتها وقطعها البحرية الأخرى في حالة الجهوزية.
زعمت واشنطن مطلع الأسبوع الجاري أن الصين أدخلت قاذفاتها النووية فوق أجواء “المنطقة المتنازع عليها، وردت عليها بتحليق طائرتيها النوويتين من طراز بي-52 لمسافة 20 ميلاً من المنشآت الصينية في جزر سبارتلي. جاء ذلك في سياق “تحذيرات” أطلقها وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، بأن هناك “عواقب” لقيام الصين بعسكرة بحر الصين الجنوبي، مؤكداً أن واشنطن لا يتوفر لديها خططاً لمغادرة تلك المنطقة. وزير الخارجية الصيني، هوا تشون ينغ، رد بحدة على تهديدات واشنطن مشبهاً إياها “باللص الباكي، أوقفوا اللص.”
واشنطن تطلب ود بيجينغ وتعوّل على تعاونها في ملف كوريا الشمالية، بينما يمضي الطرفان في تعزيز بنيتهما العسكرية في المنطقة تحسباً لتدهور الأوضاع التي “قد” تؤدي لاشتباك عسكري يلحق الضرر بجميع الأطراف. تدرك واشنطن ان ليس لديها حدودا مشتركة، برية أو بحرية، في منطقة بحر الصين الجنوبي، وتعطي لنفسها “الحق في التدخل،” طمعاً في تعزيز سيادتها العالمية “ومنع الصين من بسط سيادتها عليها.”
ادارة الرئيس اوباما أعلنت يوم 1/6/2012 عن استراتيجية جديدة تقضي بحشد نحو 60% من قواتها البحرية في تلك المنطقة. هذا بالإضافة إلى سياسة التطويق للصين بواسطة تأجيج دول الجوار عليها وبناء “تحالفات وتكتلات” إضافية وتغذية الخلافات والتوترات لذات الغرض؛ وما تصعيدها للأزمة مع كوريا الشمالية إلا اتساقاً مع سياساتها لتجديد حاجة الدول الإقليمية لها في مواجهة الصين وما هو أبعد من ذلك لتشمل روسيا في مرحلة لاحقة.
السؤال المركزي يتمحور حول ما إذا ينوي الطرفين، أو احدهما، لتأجيج الصراع إلى درجة الاشتباك العسكري وإشعال المنطقة بحرب جديدة، بالاستناد إلى معطيات التصريحات والتهديدات المتبادلة والحشود العسكرية أيضاً.
قراءة هادئة لصناع القرار في واشنطن تقودنا إلى القول أن الولايات المتحدة لا “تنوي” خوض حرب مباشرة جديدة على ضوء انكسارها وانكفائها عن العراق وافغانستان، فضلاً عن سوريا؛ وتعاظم أزماتها المالية وازدياد منسوب تحديها على الساحة العالمية؛ ضف على ذلك أنها لم تخض حرباً عسكرية مع روسيا سواء لسبب جورجيا، 2008، أو اوكرانيا وشبه جزيرة القرم، 2014.
المتاح أمام واشنطن هو مواصلة سياساتها بالضغط على الصين في كافة المجالات التي تعتبرها مفيدة لها، والحفاظ على منسوب استفزازها لاستنزافها وابقائها في حالة توتر مستدام؛ وإدامة حالة “اللاحرب واللاسلم،” تظفر فيها واشنطن باستمرار وجودها المادي وسيطرتها ونفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة.
الصين، بالمقابل، تدرك جيداً حاجة واشنطن الماسة لها في الملف الكوري و”تلعب” ورقتها ببراعة واقتدار. التيارات المتشددة في واشنطن ما برحت تردد أن الصين تولد لديها قناعة مفادها أن الولايات المتحدة “غير مستعدة” للمضي في شن حرب عسكرية، والمتاح أمام الأولى هو استخدام المنابر الدولية لتقديم شكاواها ضد خصمها كونه يعد انتهاكاً لقانون البحار العالمي.
قانون البحار موضع خلاف بين الغرب والصين، إذ تعتبره الأخيرة بأنه يتعارض مع قوانينها الداخلية وتستغله القوى الخارجية كوسيلة لبسط الهيمنة الغربية والحيلولة من تمدد نفوذها وصعودها كقوة عالمية معتبرة.
من المرجح بقاء التجاذبات بين الصين والولايات المتحدة في ملف كوريا الشمالية، حتى بعد التوصل إلى اتفاق في لقاء القمة، وتدرك أيضاً أن واشنطن ستضطر لتهدئة لهجتها وعدم استفزاز بيجينغ في المرحلة القريبة المقبلة؛ وستمضي الاولى في ممارسة لعبتها المفضلة بإطالة عامل الزمن تحسباً لقدوم رئيس أميركي جديد في المرحلة القادمة يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الدولية والأخذ بدور الصين في الحسابات الإستراتيجية بعد تمكنها من تعزيز قواتها العسكرية والإقتصادية تحول دون تخطيها او القفز عليها.