بقلم ناصر قنديل

جميل السيّد: ناصر قنديل

لأيام متتالية يتحدث النائب اللواء جميل السيد من منصة الشهود في المحكمة الدولية التي أنشئت لاستكمال مهمة من اغتالوا الرئيس رفيق الحريري بتوجيه الاتهام لكل من سورية والمقاومة. والواضح من متابعة الشهادة وما يُدلي به اللواء السيد وكيفية تفاعل المحكمة وأركانها مع شهادته أنه قد نجح بصورة لا لبس فيها في توظيف هذه المنصّة بقوة الحقائق التي يُدلي بها مقابل كمية الأكاذيب التي جرى التفوّه بها من هذه المنصة نفسها على ألسنة شهود الخمسة نجوم الذين استُجلبوا إليها لمنح المصداقية لكميات الكذب المبرمج الذي فقد مصداقيته مع سقوط شهود الزور، الذين طبعوا مرحلة لجنة التحقيق الدولية، بمثل ما طبعت شهادات السياسيين اللبنانيين مرحلة عمل المحكمة، ولأن هؤلاء السياسيين يعرفون أنّ جميل السيد يعرف، وأنّه يعرف أنّهم يعرفون، وأنّهم يعرفون أنّه يعرف أنّهم يعرفون، فلن يجرؤ أحد منهم على مساجلته بدقة ما قال أو بصدقه أو بكونه الحقيقة التي يملك السيد الكثير مما يقوله لتأييده لو تجرأ أيّ من هؤلاء على الطعن بواقعة واحدة مما قال .

جوهر ما ترتكز عليه إفادة اللواء السيد هو تقديم صورة مغايرة لعلاقة الرئيس رفيق الحريري بكل من سورية وحزب الله عشية اغتياله على خلفية ما ترتب على صدور القرار الأممي 1559 الذي دعا للانسحاب السوري من لبنان ونزع سلاح المقاومة. والصورة التي رسمت من منصة المحكمة وقرارها الاتهامي محورها، أن سورية وحزب الله كانا مع حلفائهما على ضفة مواجهة القرار الأممي الذي كان الحريري عراباً له، وأنه قتل في قلب هذه المعركة، على خط تماس اسمه قانون الانتخابات والانتخابات النيابية التي صُمّمت لإسقاطه وتحجيمه. فجاء السيد ليقول العكس تماماً أن الحريري كان في قلب جبهة سورية وحلفائها، رغم خلافه مع الرئيس إميل لحود، ورغم علاقاته القوية بالغرب الذي وقف وراء القرار 1559.

من موقعي كواحد من قلائل واكبوا عن قرب تفاصيل تلك المرحلة، ولم ينجُ من الاتهام بالشراكة في اغتيال الرئيس الحريري، في اليوم ذاته لتوقيف اللواء السيد ورفاقه الثلاثة في 30 آب 2005، ومداهمة منزلي وإعلاني مشتبهاً به خامساً في مؤتمر صحافي مشترك للرئيس فؤاد السنيورة ورئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس، سأورد بعضاً مما قلته للجنة الدولية التي قابلت محققيها في ذلك اليوم نفسه، عندما تحدّيْت اللجنة في مؤتمر صحافي عقدته على الحدود اللبنانية السورية، عائداً من دمشق لقناعتي أن مداهمة منزلي وإعلاني مشتبهاً به في الاغتيال يهدفان لبقائي فيها تمهيداً لملاحقتها، وفقاً للفصل السابع بتهمة إيواء مطلوبين للتحقيق.

في الإفادة التي امتدت لإثنتي عشرة ساعة متصلة من الخامسة بعد الظهر إلى الخامسة صباحاً، تحوّلت من مشتبه به إلى شاهد، بعدما نصح أصدقاء اللجنة من يقف وراءها بالتراجع عن اتهامي لأن قرار مجيئي من دمشق إلى بيروت وتحدّي اللجنة أكسبني براءتي أمام الرأي العام، ومواصلة الاتهام ستُضعف مصداقية اللجنة وصدقية اتهاماتها الأخرى. أطلعت اللجنة على وقائع لقائي الأخير بالرئيس رفيق الحريري في الرابع من شباط 2005 بناء على طلبه، لمناقشة ما قال إنها أمور وطنية يعتقد بأنني لن أتاخر عن تلبية دعوته، مضيفاً بعرف أنك زعلان من الكلام عن ودائع سورية بس أنت ما بتوقف عند قصص صغيرة قدام القصص الكبيرة ، فلبّيت دعوته صبيحة السبت 4 شباط رغم الفتور الذي ساد علاقتنا بعد الذي نُقل عن لسانه، ولمدة ساعتين تناقشنا وانتهينا بشبه اتفاق. تحدّيت اللجنة أن تسترجع تسجيلات ذلك اللقاء في منزل الرئيس الحريري والذي شارك في دقائق منه اللواء وسام الحسن الذي كان في صلب عمل اللجنة تلك الأيام، طالباً أخذ إفادته حول صحة ما أقول، ومقارنة كلامي عن وقائع هذه الجلسة بما تقوله التسجيلات.

كان محور كلام الرئيس الحريري طلب تفسير التناقض الصارخ بين موقفي المعلَن في كل منبر عن رفض مشروع قانون الانتخابات النيابية الذي يقوم على القضاء ويتبنّاه الرئيس لحود والوزير سليمان فرنجية كوزير للداخلية، وبين ما قيل للرئيس الحريري أنه مشروع الرئيس السوري بشار الأسد لتحجيمه، ليدخل في الموضوع، الذي من أجله اللقاء. فقلت للرئيس الحريري الجواب بسيط. وهو أنني أرسلت بطلب موقف الرئيس الأسد مما يُشاع عن القانون، وأبديت رأيي بهذا المشروع. وكان الجواب أن الرئيس الأسد على الحياد، طالما حلفاء سورية منقسمون حول القانون. فالرئيس لحود والوزير فرنجية يريدانه والرئيس نبيه بري وحزب الله يعارضانه، والجواب هو أن لا إحراج لسورية في أن يختار أيّ من أصدقائها أو حلفائها أحد الخيارين، لتكون دهشة الرئيس الحريري مضيفاً، إذن أنا فايت بالحيط ، بافتراض معركة مع سورية والرئيس الأسد حول القانون. ويُضيف هل من فرصة برأيك لترميم جبهة حلفاء سورية حول موقف موحّد، وأجيب بالتأكيد.

في تلك الجلسة قرّر الحريري أن يبادر للتذكير بموقفه الرافض للقرار 1559 عبر نشر كلام منسوب إليه في الصفحة الأولى من جريدة السفير ليوم السبت 5 شباط تحت عنوان صغناه معاً الـ 1559 يُقسِم اللبنانيين والطائف يوحّدهم ، وتوافقنا على قيامه بمناقشة تفصيلية لصيغ قانون الانتخاب مع السيد حسن نصرالله، الذي كان خيار الرئيس الحريري أن يتابع معه، وقمت بعد هذه الجلسة بنقل ما دار فيها للرئيس بري والسيد نصرالله وأرسلت مضمونَها للرئيس الأسد وتلقيتُ تشجيعاً وتأييداً للمتابعة، فيما أبلغني السيد نصرالله أنّه سيتابع عبر القنوات القائمة مع الرئيس الحريري هذا الطلب، وبعد أيام جرى اغتيال الرئيس الحريري، وكشف السيد نصرالله بعدها علناً عن لقاء جمعهما، وعن ترتيبات للقاء يجمع الرئيس الحريري بالرئيس الأسد.

تستحق إفادة اللواء السيد التقدير لقيمتها السياسية الهامة في منح الرواية الحقيقية لكون اغتيال الرئيس الحريري محاولة اغتيال لسورية وللمقاومة، وتوظيفاً لدماء الرئيس الحريري في تطبيق القرار 1559 الذي رفض منح مكانته وزعامته لتنفيذه، فصار دمه أهمّ من حياته، حتى لدى صديق شخصي له كالرئيس الفرنسي جاك شيراك، وصار لسان حال حلفائه بعد اغتياله، ليس مهماً مَن قام بالاغتيال، المهم أنه بات ممكناً توظيف حرارة الاغتيال للانتقام من الخصوم، ومَن يُجنّد شهود زور أو يصمت على تجنيدهم، لا يمكن أن تكون الحقيقة هدفاً له.

– قال لهم جميل السيد استحوا… أم أن اللي استحوا ماتوا؟ .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى