لبنان وسحق “اسرائيل الكبرى”
غالب قنديل
يستذكر كثير من العرب يوم الخامس من حزيران الذي شهد هزيمة العرب المدوية وانتكاسة كبرى لحركة التحرر العربي التي يرمز إليها الزعيم جمال عبد الناصر وللنظامين الوطنيين الأبرز في البلاد العربية خلال عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي في مصر وسورية بينما تنال ذكرى اجتياح لبنان عام 1982 اهتماما أقل ولايبدو ان تاريخ انطلاق العمليات الصهيونية في الرابع من حزيران من ذلك العام كان مصادفة بحتة بل هو عمل مقصود في كي الوعي العربي شاءه زعماء الليكود الصهيوني وخصوصا كل من مناحيم بيغن واسحق شامير وأرييل شارون الثلاثي الذي قاد احتلال لبنان ونفذ المجازر الجماعية وفرض ترحيل قوات المقاومة الفلسطينية على البواخر بمعونة الحلف الأطلسي وبقيادة الولايات المتحدة من خلال ما سمي بالقوات متعددة الجنسيات التي استعيرت صيغتها العملية من اتفاقية كمب ديفيد ومعركة الوعي التي يتقنها الغرب تعتمد على الرمزيات وشيفرات الذاكرة.
انبثقت بوادر المقاومة في لبنان من صفوف القوى الوطنية الممثلة بحركة امل وبأحزاب الحركة الوطنية وتطورت بجميع تشكيلاتها من شيوعيين وقوميين سوريين وناصريين وبعثيين ومن خارج اطر الحركة الوطنية تشكلت انوية مقاتلة من يساريين ثوريين وإسلاميين صمدوا وقاوموا ببسالة رغم احباط الهياكل القيادية ورضوخها لمسار التفاوض مع فيليب حبيب الذي انتهى بالخروج من بيروت ولكن لابد من التوقف عند ملامح التكتل المقاتل المقاوم الذي أفرزته تلك التجربة.
أولا برزت نواة لبنانية متعددة المشارب والعقائد تملك إرادة الصمود والمقاومة والقتال في وجه العدو الصهيوني واختمرت في قلبها التشكيلات الأولى للمقاومة بتنوعها وتعدديتها وفي قلب هذه النواة كانت اللبنات الأولى لطلائع مقاتلة مجاهدة تكون منها ما عرف بعد ذلك بإشهار ولادة حزب الله.
ثانيا في طليعة القوى الفلسطينية المقاتلة التي تصدت للعدو كانت الفصائل المقاتلة الرافضة لنهج الاستسلام التي عرفت بعد ذلك بمقراتها القيادية في دمشق وكانت تضم الجبهة الشعبية والقيادة العامة والصاعقة وفتح الانتفاضة والنضال الشعبي وكان في صفوف هذه القوى مناضلون عرب من العراق ومصر وتونس والمغرب والجزائر والسودان واستشهد منهم الكثير.
ثالثا من الجهات التي لحق بها ظلم شديد ولم ينصف دورها في التصدي للاجتياح الصهيوني كان الجيش العربي السوري وإذا كانت بعض الروايات قد أبرزت ما سطره هذا الجيش من بطولات خلال ما عرف بمعركة الدبابات في البقاع الغربي فإن ما قام به الضباط والجنود السوريون الشجعان في بيروت المحاصرة لا يقل أهمية وبطولة.
في قلب هذه الكتلة المقاتلة مزيج رئيسي لبناني سوري فلسطيني كان هو في الواقع أساس المواجهات الملحمية اللاحقة على أرض لبنان التي شهدت منذ الاجتياح حتى عام 2000 معارك مستمرة وحروبا صهيونية متكررة شكل مضمونها ومآلها سقوطا تاريخيا مدويا لمشروع إسرائيل الكبرى وإذا درسنا الخرائط الجينية للمقاومين في ذلك الزمن وما بعده سنجد اننا امام بيان النسب التاريخي لما نعرفه اليوم بمحور المقاومة. فقد شكل المحور السوري الإيراني الوليد قبيل الاجتياح الصهيوني الحاضن التاريخي لخيار المقاومة بعد الاجتياح وكانت سورية المحاصرة بالضغوط والمؤامرات وإيران المستهدفة بحرب كبرى تقودها الولايات المتحدة تضعان ثقلا نوعيا واستراتيجيا في دعم وتقوية قدرات المقاومة التي انبثقت واستطاعت ان تفرض التغييرات الاستراتيجية اللاحقة.
عشية الهروب الصهيوني من لبنان تحول موعد الانسحاب إلى موضوع منافسة انتخابية في الكيان الصهيوني عام 1999 وقد فاز إيهود باراك صاحب الإقتراح الأسرع للهروب من المستنقع وكانت نهايات مناحيم بيغن واسحق شامير وارييل شارون مشحونة بعلامات الخيبة والهزيمة للحركة الصهيونية التي كانوا من زعمائها التاريخيين منذ اغتصاب فلسطين على يد العصابات الصهيونية الأولى وشكل الفشل المدوي لهؤلاء القادة المستعمرين امام المقاومة اللبنانية والمحور السوري الإيراني الفلسطيني أي محور المقاومة كما يدعى اليوم ضربة قاصمة للفكرة الصهيونية وسحقا لا هوادة فيه لفكرة إسرائيل الكبرى فقد رسخت استحالة الاحتفاظ بأرض عربية محتلة وقد فرض القانون التاريخي الجديد نفسه على من سماه عتاة الصهاينة “آخر ملوك إسرائيل” أرييل شارون الذي اتخذ قرار الهروب من قطاع غزة بعد اندحار جيشه من لبنان بخمسة أعوام.
عبارة واحدة تتردد اليوم في المناسبة : المجد للمقاومة ولأبطالها وشهدائها والتحية لسورية وإيران ..في مخاض انهار دموع ودماء ودخان ودمار وبطولات لاتنسى كانت ولادة محور المقاومة عام 1982 التاريخ الذي أراده قادة الكيان الصهيوني والأنظمة العربية العميلة والولايات المتحدة ودول الناتو فصلا حاسما في فرض الهيمنة الاستعمارية على الشرق العربي وتأديبا لمن تراوده فكرة التحرر فانتصرت الفكرة على آلة الحرب والعدوان ولو بعد حين.