كيف بلغنا حافة الهاوية ؟
غالب قنديل
يكثر المسؤولون اللبنانيون من الكلام عن خطورة الوضع الاقتصادي والمالي ويتحدثون عن ذلك بلهجة تحذيرية لتحفيز الإسراع بتشكيل الحكومة وللحث على قبول التنازلات المتبادلة التي تحقق هذه الغاية وأشد ما يلفت الانتباه ان التحذيرات تصدر عن تيار المستقبل القوة التي لعبت دور الصانع الرئيسي والموجه لنهج الحكومات اللبنانية الاقتصادي وسياساتها المالية منذ اتفاق الطائف.
نظرية “الجنة الضريبي” بذريعة جذب المستثمرين وعقيدة التمويل العام بالاستدانة الربوية والخصخصة المتمادية في بلد لا تملك الدولة فيه أصلا سوى بعض المرافق الخدمية الضئيلة التي تحتكرها الدول في أشد الأنظمة نيوليبرالية بينما تنتشر مساكنة القطاعين العام والخاص في قطاعات عديدة حساسة ومهمة كالكهرباء والاتصالات والمياه والتعليم والصحة جاءت توصيات مؤتمر سيدر لتطالب بالمزيد من تلك الخصخصة بينما لم يقم أي مسؤول لبناني بمراجعة جدية لنهج جرى تفويضه المطلق برسم السياسة الاقتصادية منذ العام 1992 رغم الحصاد الخطير الذي ليس سوى ركام وخراب ومخاطر جدية يجيد السياسيون وصفها ليطمسوا إلحاح السؤال عن الجهات المسؤولة التي دفعت البلاد في هذه الهاوية السحيقة.
من أسهل الذرائع التي يحتمي بها المسؤولون لتورية دورهم في رسم سياسات خاطئة ومدمرة كلام مبالغ به يكررونه عن ضغط الظروف الإقليمية العاصفة وازمة النزوح السوري بصورة خاصة وهي ازمة سبق لهم ان استثمروا فيها كثيرا لدواع سياسية أملاها ارتباط بعض القادة والقوى بمشاريع الحلف الأميركي الصهيوني لتدمير الدولة السورية وللنيل من رئيسها فقد انخرطت قوى لبنانية عديدة في العدوان على سورية إعلاميا وسياسيا ومخابراتيا بل وورطت معها اجهزة في الدولة كليا او جزئيا.
وإن كانت مأساة النزوح بالفعل هي احد مصادر التأزم فهي تستوجب تحميل تلك القوى المتورطة مسؤولية إغراق لبنان في مأزق كبير لتأمين ما حصدته من خلال نهب الاموال التي تدفقت تحت اليافطة الإغاثية وجرى توزيعها على نافذين لبنانيين في مؤسسات السلطة إلى جانب مجالات اخرى حصدوا منها عائدات غير قليلة من موازنات شراء الأسلحة والذخائر وشبكات الاتصالات المتطورة والمنصات الإعلامية التي رعتها الدول الخليجية التي يرتهن لها عدد غير قليل من القوى السياسية الحاكمة في لبنان وبصورة خاصة المملكة السعودية إضافة إلى قدوم رساميل سورية كثيرة مع النازحين وحيث سعى اهل السلطة لشراكات مع الأثرياء القادمين.
تلك الذريعة ساقطة واقعيا وتفاقمها سببه اعتراض قيادات لبنانية على جميع المحاولات لتحريك اتصالات لبنانية سورية تتيح احتواء ازمة النزوح وتسهل عودة الأشقاء الذين هجرتهم عصابات الإرهاب وتنظم العلاقة اللبنانية السورية خلافا للمشيئة الأميركية السعودية القطرية التي لم ترد خيرا للبنان او لسورية على السواء خلال السنوات الثماني المنصرمة.
ما قبل العدوان على سورية وبعده وحتى يومنا هذا تتفاقم في لبنان ازمة اقتصادية ومالية خانقة لها تداعياتها الاجتماعية ولها أسبابها البنيوية ويقع في صدارتها نهج الجهة اللبنانية التي قادت الحقبة الإعمارية منذ اتفاق الطائف وتولت رسم السياسات الاقتصادية العليا طوال أكثر من ربع قرن أي تيار المستقبل وحلفاؤه.
السياسة النيوليبرالية التابعة للغرب والخليج اجهزت على القطاعات المنتجة وخربت الثروة المائية والبيئية ولم تقض فحسب على فرص النمو الصناعي والزراعي والسياحي بل هي قتلت تلك الفرص لأنها قامت على التبعية العمياء وعلى الانخراط في منظومة الهيمنة الغربية الصهيونية الرجعية ومخططاتها المدمرة بما في ذلك احتضان قوى التوحش والتكفير وهكذا ادارت الظهر لفرص التكامل مع الشرق العربي ومداه الواسع فهي رفضت بدافع سياسي أي علاقة جدية ومتطورة مع سورية او العراق او إيران او روسيا والصين والهند بالتوازي مع تصميمها على توثيق العلاقات مع الغرب والخليج لدواع سياسية واستخباراتية يمليها ارتباط خارجي وليست نتيجة أي حساب واقعي لمصالح لبنان الفعلية.
عجز النظام القائم عن حل بديهيات مثل تأمين الكهرباء ومياه الشفة وجمع النفايات ومعالجتها بيئيا وتنقية مجاري الانهر ومعالجة مياه الصرف الصحي دليل حاسم على خلل بنيوي تستدعي معالجته قطيعة مع العقلية القائمة على تقاسم المغانم لصالح فكرة الدولة الوطنية ومن المشكوك فيه ان يكون لبنان بمفرده قادرا على توليد دينامية الحل المنشود من غير تبلور جبهة شعبية للتغيير تتخطى الأساليب والوسائل التقليدية والبرامج والشعارات المستهلكة.