ذكريات في ذكرى الرشيد… بقلم: ابراهيم عوض
لا يمكن أن تمر ذكرى إغتيال الرئيس رشيد كرامي من دون التوقف عندها ، وإن إستدعى الأمر تكرار كلمات الشجب والإستنكار لجريمة الإغتيال المروعة التي إستهدفته، وتذكر وقائع جلسات المحاكمة التي عقدها المجلس العدلي ، وهو أعلى سلطة قضائية في لبنان، وأدان في نهايتها رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع بها .
مرت على هذه الجريمة ثمانية وعشرون عاماً شهدت خلالها الكثير من الأحداث والمتغيرات ، لعل أبرزها وفي ما يخصها إخراج جعجع من السجن ، بعد أن أمضى فيه أحد عشر عاماً ، وهو المحكوم بالمؤبد ، وذلك بقرار عفو خاص صادر عن مجلس النواب بعد أشهرقليلة على إغتيال الرئيس رفيق الحريري . ولابد أن نشير في هذا السياق الى الموقف المشرف الذي إتخذه إبن طرابلس النائب الصديق محمد كبارة بتغيبه المتعمد عن حضور الجلسة النيابية ، وكذلك إمتناع الوزير غازي زعيتر عن التصويت لصالح قرار العفو.
بعد العفو ، وكما بات معلوماً، أضحى المعفى عنه “نجماً ساطعاً” على الساحة السياسية ومرشحاً لرئاسة الجمهورية، لا بل حليفاً رئيساً للتيار الذي فقد بدوره، كما فقدنا كلنا، زعيماً ورئيس ورجل دولة قل نظيره ملأ الدنيا وشغل الناس أزهقت روحه بيد الإجرام والقتل هو الآخر.
عند إستحضار الحديث عن جريمة إغتيال الرشيد نسمع أصواتاً تبرئ المدان بإرتكابها وتؤكد أنه لم يفعلها. وتذهب الى حد التهجم بعنف على كل من يتناول “الحكيم” في هذا الصدد . وتوضح بأن القصة كلها من “فبركات” النظام الأمني اللبناني – السوري الذي أراد النيل من سمير جعجع لغاية في نفس النظام المذكور . أما الرد على ذلك بالطلب الى المتضررين من هذه الإدانة حث المدان بها على إعادة محاكمته ، فلا تلقى أذاناً صاغية، علماً أنه في حال تحقق هذا الأمر وأدى في النهاية الى تبرئته بالفعل فعلى كل من إنتقده أو تهجم عليه أن يقدم له الإعتذار ويؤدي له التحية، طبعاً مع الإستبعاد الكلي لرؤية ذلك اليوم الذي يمثل فيه مرشح رئاسة الجمهورية أمام المحكمة ساعياً لكشف الحقيقة التي تبيض صفحته.
ما علينا.. فلندع الزمن يرينا ما يحمله في طياته . ولنعد الى ذكرى الرئيس رشيد كرامي ، الذي نفتقد وأمثاله من رجالات السياسة الكبار والحكماء في هذا الزمن الرديء الذي نعيشه.
لقد كان رحمه الله نابذاً للعنف داعياً للوحدة وعاملاً من أجلها ساعياً كي يبقى لبنان رمزاً للعيش المشترك وواحة آمنة لجميع بنيه وطوائفه. من منا لا يذكر يوم جاءه موفد عربي كبير ، في السنوات الأولى من الحرب اللبنانية ، واضعاً بين يديه حقيبة معبأة بآلاف الدولارات مقترحاً عليه إنشاء “ميليشيا” للمشاركة في الحرب والدفاع عن وطنه على حد قول الموفد ، فما كان من الرئيس الراحل إلا الإعتذار منه رافضاً تسلمها ، مبلغاً إياه أنه ليس بمثل هذه التصرفات تحل الأزمة اللبنانية ، بل بمحاولة جمع المتحاربين وحثهم على الحوار وكأنه يقرأ بذلك مآل الأحداث في لبنان التي أوصلت الى إتفاق الطائف.
قبل أقل من ثماني وأربعين ساعة على إغتياله زرته في دارته الصيفية في “بقاعصفرين”، حيث كنت قادماً من لندن ، مكان “هجرتي المؤقتة” حينذاك التي توليت خلالها مديرية تحرير مجلة “المجلة” الصادرة عن الشركة السعودية للإعلانات والنشر ، ناشرة صحيفة “الشرق الأوسط” وثلاث عشرة مطبوعة أخرى . فقد سألني ، وهو جالس تحت شجرة عملاقة ممسكاً بسبحة بين أصابعه وحوله وفد من أهالي البلدة ، عن نظرة الخارج الى لبنان وما تحمله الأخبار من جديد فأجبته على الفور : “بأن حالنا يا دولة الرئيس كجو المدينة التي أعيش فيها حالياً (لندن) ضباب بضباب”. إبتسم وعلق بظرافته المعهودة “منيح انو ضباب .. على حد علمي مكفهر“.
صدق الناطق بهذه العبارات وكأنه كان عالماً بما يخبئه الغد ، وبما سيحل بالوطن الذي أحب وأخلص وتفانى لإنقاذه حتى النفس الأخير.
أوَ لم يكن حاملاً خطة جديدة للخروج من المحنة في تلك الطوافة التي لم تصله الى محطته المنشودة ؟!. أوَ لم يكن على تواصل مع الرئيس الراحل كميل شمعون وقد تواعدا على التلاقي تحت عنوان “الإنقاذ” ؟!. أوَ لم يبذل جهوداً مضنية للحصول على وقف لإطلاق النار بعد إبتداعه إشكالاً وأنواعاً متعددة من لجان التنسيق والإرتباط بين “الغربية” و “الشرقية” ؟!. وبما أن الشيء بالشيء يذكر فأنني لم أنس ذلك المشهد الذي كان فيه الرئيس كرامي جالساً في قصر منصور ، القريب من المتحف ، مكان إجتماع الممثلين عن فريقي النزاع ، والى جانبه الوزير السابق كريم بقرادوني وحده بعد أن تغيب الآخرون عن اللقاء . وبعد أن إنتظر الإثنان لأكثر من نصف ساعة دون جدوى إلتفت كرامي نحو جليسه ممازحاً “ما رأيك أن نفض الإجتماع؟“.
يكفي لمن يأتي على ذكر الرئيس رشيد كرامي أن يفخر بنزاهته ونظافة كفه حتى اعتبر مثالاً للحاكم “الأصيل” أين منه آخرون في عالمنا اليوم !.
وعلى خطى الرئيس الراحل سار شقيقه عمر ، الذي فقدناه هو الآخر قبل أشهر ، وخسر لبنان بالتالي زعيماً من فئة الشرفاء الأتقياء الصادقين والثابتين على مواقفهم وقد باتوا قلة نبحث عنهم بالسراج والفتيل.
أما فيصل الذي يحمل الأمانة في الوقت الراهن فيمضي بخطى متأنية لكن ثابتة ، بعد أن نهل من مدرسة أبيه وإلتزم بتعاليمه وفي مقدمها الوفاء الذي بات مفقوداً في دنيانا هذه الأيام.
وعلى سيرة الوفاء يروى أن الرئيس سعد الحريري سعى لإستمالته ونسج خيوط تحالف معه ، لكنه إعتذر بلباقة مؤكداً حرصه على إبقاء أفضل العلاقات معه ، موضحاً أنه لن يتخلى عن الرئيس نجيب ميقاتي الذي وجد منه، أثناء توليه وزارة الشباب والرياضة في حكومته كل دعم ومؤازرة، كما كان الى جانبه في وقت الشدة منذ أن أدخل والده مستشفى الجامعة الأميركية ومكث فيه طويلاً حتى وافته المنية وإنتقل الى جوار ربه..