بقلم ناصر قنديل

بين موسكو وواشنطن: تل أبيب وطهران… وبيونغ يانغ: ناصر قنديل

تدرك الدبلوماسية بواقعية مفهوم موازين القوى وهوامش الحركة، وتتواضع في رسم سقوفها حتى تنمو معادلات القوة فترفعها تدريجاً، كما يقول سلوكها منذ بداية الحرب على سورية بقيادة أميركية، حيث كان سقف موسكو في البداية منع استعمال التفويض الدولي لتدخل عسكري غربي على الطريقة الليبية، وبقي الفيتو في مجلس الأمن الدولي شكل الحضور الأبرز في هذه الحرب، مع القبول سياسياً بسقوف مزعجة لسورية ومخالفة لحقيقة ما تشهده، كحال ما عرف باسم بيان جنيف الأول وما تضمنه من تركيز على بعد داخلي سوري ينتهي بتشكيل هيئة حكم انتقالية. وكانت موسكو واثقة بأن منع التدخل الأميركي العسكري المباشر سيتيح صمود الدولة السورية وبالتالي حدوث الاستعصاء الذي سيفتح باب السياسة الذي فتح لاحقاً فرصة التموضع العسكري الروسي المباشر في الحرب وصولاً لخوضها إلى جانب سورية وحليفيها إيران والمقاومة وتحقيق الانتصارات فيها .

بالمقابل كانت واشنطن الواقعة تحت غرور القوة، ووهم القدرة على استعمال فائض القوة، وحجم مقدرات الحلف الذي جمعته وراءها، تمارس العنجهية والغطرسة والسقوف المرتفعة، ومن المفيد التذكير أن مصطلحَي، الأيام المعدودة للرئيس السوري، ولن يفلت مِن العقاب مَن يتجاوز الخط الأحمر، هما مصطلحان للرئيس العاقل والمعتدل والواقعي باراك أوباما كما يتم وصفه اليوم مقارنة بالرئيس الحالي دونالد ترامب، لأن القضية قضية أميركا وليست قضية أوباما وترامب. فالعقلانية هبطت على أوباما بعد محاولته اختبار القوة بحشد الأساطيل، وبعد فشله في تطويع إيران وابتزازها في ملفها النووي، وخشيته من نفاد الوقت في لعبة العقوبات غير المجدية، بينما إيران تقترب من امتلاك كمية وافية من اليورانيوم المخصب لصناعة أول قنبلة.

خلال ثلاثين شهراً من الدور العسكري والدبلوماسي في سورية نجحت موسكو برسم سقوف متحركة أنجزت معها توظيف الصمود السوري ودور الحليفين الإيراني وقوى المقاومة لإسقاط الحرب كمفهوم استراتيجي للرهان على وضع اليد على سورية أو جعل تقسيمها مشروعاً مطروحاً على الطاولة. وما بقي من ملف الحرب في سورية صار مرتبطاً بصورة مباشرة بتحديد الإطار الإقليمي لدور سورية بعد استرداد الدولة السورية لكامل جغرافيتها، وهو ما تكشفه سطور المواقف الروسية والأميركية المعلنة. وبينما تحاول واشنطن فرض معادلة إسرائيلية عنوانها لا استقرار لسورية ولا تثبيت لوحدتها مع بقاء حزب الله وإيران على أراضيها، تستدير موسكو لتضع «إسرائيل» المعنية بهذه المعادلة بين خياري، القبول بالتسليم الطوعي باسترداد الدولة السورية جغرافيتها والحصول على ترميم قرار فك الاشتباك ودور الأمم المتحدة على حدود الجولان المحتل، أو الاسترداد القسري سيكون مرافقاً حكماً بدور وانتشار لحزب الله وإيران على هذه الحدود. وفي الحالين تنصح روسيا بالتعاطي مع سورية كدولة سيدة مسؤولة عن أمن جغرافيتها، وترك مبدأ تمركز إيران وحزب الله في سورية كملف سيادي يخص الدولة السورية.

كما تداخلت تعقيدات التفاوض حول شرعية الدور الإيراني الإقليمي والدولي بملفها النووي، وتداخل الكلام الأميركي والسعودي والإسرائيلي عن الملف النووي بالكلام عن النفوذ الإيراني. كان الانتقال النوعي للدور الروسي في سورية مرتبطاً بإنهاء حلقة هامة من هذه الشرعية الإيرانية التي مثلها التفاهم النووي، بحيث كان التموضع العسكري الروسي لاحقاً لولادة التفاهم بشهرين فقط، كذلك يأتي الانسحاب الأميركي من التفاهم محاولة لإعادة المعادلة إلى ما كانت عليه، لكن لا يمكنك أن تسبح في النهر ذاته مرتين. فما جرى قد جرى، والقوات الروسية صارت في سورية وأنجزت وتغيرت سورية، وهي لم تكن قبل التفاهم، وما عاد ممكناً إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ومن جهة مقابلة، صارت أوروبا شريكاً في التفاهم، وكما يبدو ليس سهلاً سحبها منه، واعتبار أن شيئاً لم يكن. فالتقارب الروسي الأوروبي تحت عنوان حماية التفاهم يفتح أمام موسكو باباً واسعاً لمواصلة استثمارها على مشروع أوراسيا الذي تجذبه مصالح شرق أوسطية مشتركة، وتحكمه مخاوف ومخاطر موحدة في الأمن القومي، وفي الحالتين تبدو واشنطن على الضفة الأخرى، إما غير معنية بالمصالح ذاتها، وإما ذات مصلحة بالعبث بالاستقرار وتصدير المخاطر لكل من روسيا وأوروبا.

تدير موسكو بالتوازي حقبة الإنجاز في العنوانين السوري والإيراني وتدرك التشابك بينهما، ولا تزال تربط جوابها على ملف الأمن الاستراتيجي لـ«إسرائيل» الذي تضعه واشنطن أولوية بالتزام إسرائيلي بتسوية مؤسسة على قرارات مجلس الأمن الدولي وقيام دولة فلسطينية، عاصمتها القدس، وتضمن حق العودة للاجئين. بينما تراهن واشنطن على أن هذا الكلام أصبح من الماضي بعد ضمان التأييد العربي للخروج من القضية الفلسطينية، وارتضاء اعتبار القدس عاصمة لـ«إسرائيل»، ودعوة الفلسطينيين لتسوية تحت سقف الأمن الإسرائيلي، فتخوض موسكو مشروعاً للفصل بين مستقبل سورية وسيادتها ووحدتها، ومستقبل النزاع حول الرؤى لحل القضية الفلسطينية ومن ضمنها الأمن المستقبلي لـ«إسرائيل»، عبر تقديم الدولة السورية خياراً إلزامياً لكل اللاعبين الدوليين والإقليميين بمن فيهم واشنطن وتل أبيب، لأن البديل هو تجذر الانتشار الإيراني ووجود قوى المقاومة كضرورة لمساندة تقدّم الدولة السورية نحو استرداد جغرافيتها عندما يصير لذلك طريق وحيد هو الحرب.

تتجه موسكو بالرصيد الذي راكمته من المواجهات في العناوين الدولية والإقليمية المتعددة والمتشعبة والمتداخلة نحو كوريا الشمالية بزيارة نوعية لوزير خارجيتها سيرغي لافروف، قاصداً بيونغ يانغ بعدما أدّت الأزمة النووية الكورية الشمالية دورها في إسقاط فلسفة العقوبات، التي تتفكك جبهتها اليوم مع الانسحاب الأميركي من التفاهم النووي مع إيران بموقف أوروبي يزداد تبلوراً، وبعدما شهدت مشاحنات وتجاذبات التفاوض ما يكفي لتظهير هزال العنجهية الأميركية. والزيارة تبدو مناسبة لرسم إطار الضمانات الأمنية الكورية مشروطاً برسم إطار دولي يستوحي صيغة الخمسة زائداً واحداً، وربما بخمسة زائداً إثنين بضم اليابان إلى الدول الخمسة الكبرى وألمانيا، في التفاوض مع كوريا، وتقديم الضمانات والمطالب لها، وسيكون السؤال الأول بوجه واشنطن في أول لقاء لهذه التشكيلة، هو: ما هي ضمانات أن لا يتعرّض التفاهم المزمع الوصول إليه لما تعرض له التفاهم مع إيران؟

– الصين في الملف الكوري وفي الحرب التجارية وقضايا الأمن الإقليمي مع أميركا لن تحتاج للتحفيز الروسي لتكون حاضرة بقوة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى