بقلم ناصر قنديل

حكاية إيران وكوريا مع أميركا وأوروبا: الجغرافيا السياسية تغيّرت مع الحرب السورية: ناصر قنديل

كشفت العنتريات الأميركية في الملف النووي لكوريا الشمالية هزال السياسة الخارجية والأمنية لإدارة الرئيس دونالد ترامب، التي تلاقى مستشار أمنها القومي جون بولتون ونائب الرئيس مايكل بنس، على تبشيرها بالخيار الليبي، واضطر رئيسها ترامب نفسه لنفي التشبيه وثم الإصرار على بقاء التفاوض رغم الإعلان الكوري عن التشكيك في جدواه. وعاد فأعلن إلغاء القمة مع الزعيم الكوري بسبب الصدّ والممانعة الكوريين، ليعود فيوسّط رئيس كوريا الجنوبية ويرسل وفداً إلى كوريا الشمالية يتبعه وصول وزير الخارجية مايك بومبيو لتقديم ضمانات رسمية طلبتها كوريا للإبقاء على القمة، ويعلن ترامب مجدداً أنه يتطلّع لعقد القمة ويعد كوريا بالمَنّ والسلوى .

بالمقابل بدت أميركا متشدّدة ومتصلّبة وفي منحى تصعيدي تجاه الملف النووي الإيراني، وصولاً لعدم سماع أصوات الاستغاثة الأوروبية بعدم تطبيق العقوبات على شركاتها ومصارفها التي ستبقى ضمن خط التعامل التجاري مع إيران من ضمن التزام الحكومات الأوروبية بالتفاهم الموقع والمصدّق عليه من مجلس الأمن الدولي برضا وقبول واشنطن نفسها، حتى عندما بلغت الأصوات الأوروبية حدّ التحذير من أنها ستنفرد عن أميركا وتصون التفاهم لم تلقَ إصغاء واشنطن، وترافق التصعيد الأميركي مع تهديد إسرائيلي متواصل وتصعيد محسوب ومتقطع على الجبهة السورية تحت عنوان الدعوة لانسحاب إيران وحزب الله، يرافقها طلب أميركي مشابه، وظهرت إلى العلن حملة عقوبات أميركية وخليجية ذات مغزى سياسي تستهدف حزب الله، رغم عدم قيمتها العملية.

أمران جديدان على حسابات المحلّلين والسياسيين أظهرتهما الأيام، الأول لهاث أميركي نحو القمة مع زعيم كوريا الشمالية رغم فقدان المهابة بعد كل ما تعرّضت له القمة، وتمسّك أوروبي بالتفاهم النووي مع إيران والالتزام بتخطّي عقدة العقوبات الأميركية بما يُطمئن إيران لمصالحها بعدما حسمت أنّها تلتزم بالتفاهم بقدر ما يلبّي هذه المصالح. فهل هذه بدايات لتبلور مشهد دولي جديد، وهل بدأ زمن تفكّك الغرب الذي عرفناه تقليدياً بقيادة أميركية؟ وهل تلعب الجغرافيا السياسية التي جذبت روسيا كلاعب إقليمي لعبتها الآن مع أوروبا بعدما صارت أميركا لاعباً إقليمياً في شرق آسيا بقوة الجغرافيا السياسية ومفاعيلها ذاتها؟

الأكيد أن زلزالاً شهدته العلاقات الدولية لا زال في بداياته، والأكيد أن الأحكام المسبقة أو التقليدية لا تصلح لفهم تداعيات هذا الزلزال، والأكيد أن تيويم الاستنتاجات والخلاصات يحتاج لمرونة في التفكير وتلقي المواقف وقياسها ومحاولة فهمها. ومَن يراقب التحوّل الذي شهدته التصرفات الروسية خلال ثلاثة أعوام منذ قرار التموضع العسكري في سورية وتحمّل تبعاته كقرار استراتيجي يحمل تحدياً واضحاً وعلنياً لما كان سائداً من قواعد رسمتها أميركا على الساحة الدولية عموماً، وساحة المنطقة خصوصاً، ويراقب تدريجياً ما أصاب الاتحاد الأوروبي من ملامح تفكك بدأت طلائعها مع الانسحاب البريطاني، وما لحق الاتحاد الأوروبي من ارتباك تجاه كيفية التأقلم مع العالم الجديد الذي يبدو قيد الولادة، سواء لجهة كيفية التعامل مع الحرب في سورية وعليها، أو في التعامل مع إيران، أو في التعامل مع روسيا، وما في كل ذلك من ارتباك وتذبذب، ومقابله العلاقات الأوروبية الأميركية، وكذلك مَن يراقب الانكفاء الأميركي العملي من ملفات المنطقة رغم بقاء ملامح انتشار عسكري وسياسي، انكفاء عبر عنه الانسحاب السلبي من التفاهم النووي الإيراني دون السعي لإسقاط التفاهم ولا الذهاب لحرب يفرضها أي مؤشر لعودة إيران لتخصيب اليورانيوم، وكذلك الانسحاب الأميركي من ملف تسوية القضية الفلسطينية، والاكتفاء بإعلان القدس عاصمة لكيان الاحتلال ولو كانت النتيجة تفجير مشاريع التفاوض ونقل الشارع الفلسطيني وقواه السياسية إلى حالة مواجهة بذلت واشنطن الكثير لتفاديها.. مَن يراقب كل ذلك لا بد أن يكتشف أن قواعد السياسة الدولية تتغيّر نوعياً، وأن ما جعل روسيا تترجم عالميتها بالتحوّل لقوة إقليمية في المنطقة، هو ذاته يجعل أوروبا كذلك، ويدفع أميركا بقوة الجغرافيا إلى خارج المنطقة، ويجذبها نحو التحوّل قوة إقليمية في منطقة أخرى يمسّها كل تحوّل فيها في الأمن والاقتصاد، هي شرق آسيا وليس ما عُرف بالشرق الأوسط، الذي بيقيها على صلة به التزامها بأمن «إسرائيل» وأمن النفط باتصاله بالحكم السعودي.

عندما تقرّر واشنطن الانسحاب من اتفاقية المناخ والتخلّي بموجب ذلك عن دورها كقوة عظمى قيادية للعالم، فهي تقرّر العودة للمنافسة التي حرمها الغرب نفسه بقيادة أميركية في مرحلة الرهان على رفع أكلاف الإنتاج من بوابة منع تدمير البيئة، وفرض بقيادة أميركية شروطاً على الصناعات تزيد كلفتها تحت شعار حماية البيئة، وتمنح الغرب وصناعاته قدرة تنافسية أعلى، لتأتي واشنطن معلنة بانسحابها أنها عاجزة عن المنافسة بهذه الشروط وأن اقتصادها لا يحتملها، والمنافس هنا هو باقي دول الغرب في أوروبا وكل من الصين واليابان وكوريا الجنوبية في الشرق. وعندما تلحق واشنطن ذلك بقرارات متتابعة برفع الرسوم الجمركية على الحديد والصلب، وصناعة السيارات، وتليها بإعلان الخروج من اتفاقية «نفتا» التي تربطها بدول أميركا الجنوبية للأسباب ذاتها، فهي تقرّر الاحتماء وراء الجدران، جدران السياسة بالانسحاب من قيادة التسويات حيث لا جدوى من الحروب ولا قدرة على خوضها، وجدران الاقتصاد، بالانسحاب من التفاهمات التي شكلت اتفاقية المناخ وتشكيل منظمة التجارة العالمية، لضمان حرية انتقال البضائع، ذروة الحركة الأميركية فيها نحو العولمة.

سقوط العولمة هو الاستنتاج الأهم الذي يحكم العالم اليوم في ضوء الزلزال الذي مثّلته الحرب السورية، وفشل السيطرة الأميركية عليها، وتبلور معادلات دولية جديدة بضوئها، تُعيد رسم مفاهيم الأمن القومي والاقتصادي للدول الغربية بصورة لا تتيح بقاء أميركا وأوروبا في ضفة واحدة، بل ربّما تؤسس لتقارب روسي أوروبي، وتنافس ومساكنة أميركية صينية، من موقع دور وفعل الجغرافيا السياسية والاقتصادية، في زمن باتت ترسم فيه البحار مناطق الأقاليم الجديدة، وفقاً لما تميّز بكشفه الرئيس السوري بشار الأسد بنظريته عن البحار الخمسة، التي تجعل روسيا وأوروبا وما عُرفَ تقليدياً بالشرق الأوسط وإيران وتركيا والخليج ضمناً، منطقة إقليمية واحدة، فالقضيتان الجوهريتان لأمن أوروبا هما النازحون والإرهاب، ومصدرهما زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط التقليدي. وهي زعزعة لا تزعج أميركا، وتضاف إليهما مخاطر مواجهة مع إيران التي تملك ترسانة صاروخية تقع أوروبا في مداها، وتتحمّل أوروبا لتفادي المواجهة فاتورة الانكفاء الأميركي لإدارة ملف إيران النووي بما لا يزيد درجة الخطر بذهاب إيران للتخصيب الخطير، بينما أولويات أميركا كورية وصينية، أمنياً واقتصادياً، فواشنطن في مدى صواريخ نووية كورية جاهزة، وتحت تأثير ديون تملكها الصين، وفي مواجهة منافسة اقتصادية قوتها المحورية تمثلها الصين وبنسب أقل اليابان وكوريا الجنوبية وأوروبا.

– هذا ما يفسّر الموقف الأوروبي المخالف لواشنطن في قضية القدس، وفي الملف النووي الإيراني، وفي ملفات ستتبلور أوضح تباعاً، كالحرب السورية والحرب في اليمن، وبالتالي تغليب أوروبا للغة التسويات على العنتريات والمواجهات، عنتريات يقودها كيان الاحتلال والكيان السعودي، ككيانين هيجينين لا تقرّر السياسة فيهما لغة المصالح، واحد لكونه مصطنعاً سكانياً بقوة الاستيطان، وآخر لأنه مصطنع اقتصادياً بقوة النفط، بينما ولاعتبارات الجغرافيا السياسية نفسها بدأ التحوّل التركي، ولو سار بطيئاً، فهو لن يعود إلى الوراء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى