ما القضية؟ بقلم: د.بثينة شعبان
في الأسبوع الفائت كتبت عن “صاحب قضية” والقابض عليها رغم رداءة الزمن والظروف والتقاطعات الإقليميّة والدوليّة. كتبت عن الفلسطيني المقاوم الصلب الذي أعاد لنا اعتبارنا لأنفسنا وأعطانا قبساً من أمل بمستقبل أفضل. وبعد ذلك رأيت أخاه يستصرخ العالم من أجل ابنته التي تطالبه أن تأكل دجاجاً منذ سبعة أشهر، ويتكلّم بكلمات تحرق القلوب أسى غير مصدّق هو نفسه ما يقوله، ويسأل هل يعقل أن أصبح متسوّلاً؟ أن أصبح أنا متسوّلاً، يا جماعة إيش القضية؟، سؤال يستحق التوقف عنده والبحث في احتمالات الأجوبة عليه، وخاصة إذا جاء متزامناً مع الأخبار الواردة من “اليمن السعيد” بأن 22 مليون من سكان اليمن مهددون بالجوع وأن 85% من شعبها اليوم تحت خطّ الفقر. الأجوبة طبعاً ليست في اليمن وحده ولا في فلسطين وحدها رغم إصرار شعبيّ البلدين أن يواجهوا مصيرهم بأنفسهم بعد أن يأسوا من مجتمع دولي ومنظمات حقوق إنسان ومنظمات عربيّة وإسلاميّة على اختلاف مسمياتها. والأجوبة لا يمكن أن تكون وليدة أحداث اليوم فقط لأنّ جذر المشكلة ضارب في أعماق تاريخنا سواء ما حدث منه أو ما كان يتوجب الحدوث ولم يحدث .
جزء أساسي من المشكلة هو أنّنا لم نولِ اهتماماً حقيقياً لكتابة تاريخ الأحداث في بلداننا، ومن يكتب هذا التاريخ ومن أيّ وجهة نظر، بل لازلنا على الأغلب أمّة شفوية تتعامل بالشفوي من أجل التهرب من المسؤوليّة ونتيجة الافتقار إلى الشفافية والصّدق، ومن ثمّ نترك التاريخ وشأنه لأصحاب المصلحة في تسجيله وبالطريقة التي يرتأون والتي تخدم أهدافهم طبعاً، ولهذا السبب فإنّ كلمة “الأرشيف” لا اعتبار لها في ثقافتنا، وقد كتبت منذ عقود زاوية بعنوان “أرشيف” أقول فيها أنّ الأرشيف الذي هو ذاكرة الدولة والأمّة مكان يُرسلُ إليه المغضوب عليهم من الموظفين ويعتبر أدنى مكاناً في سلم وظائف الدولة وفي البلدان العربيّة قاطبة، بينما الأرشيف هو ذاكرة الأمّة والذاكرة أثمن ما يمتلكه الإنسان أو البلاد. الأمر الآخر والذي قد يلقي الضوء على مناحي من الأجوبة لأنّه جزء أساسي من المشكلة المستعصية هو أنّ هذه الأمّة وفي جميع أقطارها ما زالت تتألف من أفراد ولم تتوصل إلى تشكيل عقل جمعي في السياسة والمجتمع يصهر كلّ جهود وتوجهات الأفراد في حركة عامة في التاريخ، ولا تتوقف عند مصير شخص أو فرد أو حتى مجموعة أفراد لأنّ القوة المجتمعيّة والسياسيّة الدافعة أكبر وأعمق من الأفراد، وبهذا تضمن استمرار الدول والبلدان والأمم. وبنظرة سريعة إلى الدول الأكثر استقراراً وأمناً وتقدّماً من دولنا العربيّة، نجد أنّ هذه الدول تعاني من مشاكل شبيهة بالمشاكل التي نعاني منها من فقر وفساد وطبقية وظلم وإلى ما هنالك، ولكنّ عجلة السير فيها لا تتوقف عن الدوران لأنّه لديها من العقل الجمعي ما يشكّل قوة دافعة، ولديها أيضاً من آليات العمل ما يضمن استمرار الدول، وتجاوزها أعقد وأصعب الأزمات.
علّ هذا الوضع المفكّك والذي لم يرتقِ إلى طور التشكيل والبنيان المتين، هو الذي يفسّر ظاهرة التبعية للآخر، أو قد يكون في جزء منه نتاج هذه التبعية في العقل والمفهوم والمصير. وعلّ هذا الوضع يجيب جزئياً على سؤال شغل بالي على مدى سنوات ألا وهو لماذا نجد نسبة عالية في عالمنا العربيّ من المستعدّين أن يخونوا قضاياهم وبلدانهم ويرهنوا حياتهم لأعداء أمّتهم، واليوم نلاحظ هذا الإرتهان على مستوى دول وحكّام وبطريقة مخزيّة ومخجلة، ربما لأنّ عدم تأسيس آليات عمل لبلدان حقيقيّة وعدم وجود عقل جمعي ودول قويّة تدفع الأفراد والمؤسسات، ومؤخراً الدول، كي تجد لنفسها مرجعية تنتمي إليها، فتقع في حضن الأعداء الذين يعملون منذ عقود على خلق هذه الفرصة وينتظرون اقتناصها بكلّ كفاءة واقتدار ولهذا السبب نجد الجرحى في فلسطين على عكازات ليقولوا “لا” للاحتلال، والجائعون في فلسطين واليمن يتحدّون أقدارهم بأمعاء خاوية بعد أن يأسوا من كلّ ما له علاقة بمجتمع دولي أو إسلامي أو عربيّ.
القضية يا صديقي العزيز هي أنّك تجترح قضيتك وكرامتك في وقت فشلت به دول عن فعل ذلك، وتركتك وحيداً والعار واقع عليها، وليس عليك، أنّك وجدت نفسك في هذا الوضع الصعب. القضية هي أنّ العرب استهانوا بأنفسهم، فاستهان العالم بهم وهم مستمرّون في بناء قصور على الرمال بدلاً من وقفة صادقة وجريئة بعد كلّ هذه المحن التي عصفت بهم، وإعادة قراءة تاريخهم والتأسيس لتاريخ مختلف يعتمد الواقع مَعْيناً والصّدق منهجاً والعقل الجمعي وسيلة والتوثيق المكتوب والمعلن والشفاف أسلوباً وآليات العمل الواضحة والحديثة ضمانة لتنقية الدولة واستمراريتها وازدهارها. القضية يا صديقي هي أننا بالفعل لم نبدأ بعد، وأنت بدأت الدفاع عن قضيتك وقضايانا بصدر عار وأدوات بسيطة ولم نفهم أنّه علينا اللحاق بك بكلّ ما نمتلك من قوة، ولكن لابدّ وأن تكون مسيرتنا على خطى نيلسون مانديلا ومهاتير محمد وكلّ الشرفاء الذين وضعوا أوطانهم أوّلاً وثانيّاً وثالثاً وفوق كلّ اعتبار.