موقع” إسرائيل” في الذاكرة العربية البروفسور نسيم الخوري
هل نتذكّر كيف سبقت مصر دول المشرق كلّه للإعتراف بالصين(1956) عندما كانت واشنطن وموسكو على وشك التوقيع على معاهدة الحدّ من إنتشار الأسلحة النووية وحظر المعرفة النووية عن الدول الأخرى؟ كانت الصين معزولة آنذاك وخارج الأمم المتحدة ومستعجلة لإمتلاك السرّ النووي، وكان عبد الناصر يقرع بابها للوصول الى تلك المعرفة خارج دائرتي يقظة أميركا وروسيّا الدائمة وحظرهما .
من يتذكّر سرقة 3 مدمّرات كانت فرنسا قد صنّعتها ل” إسرائيل”، ولمّا حظّر الرئيس الفرنسي شارل ديغول من إرسال الأسلحة الى”إسرائيل” لمباشرتها حرب 1967، خرجت المدمّرات خلسة من ميناء “شيربورنج” الفرنسي نحو الأطلسي فالبحر المتوسّط لترسو في شاطيء حيفا؟
من يتذكّر رسالة تهديد جون كينيدي الى جمال عبد الناصر قبل حرب ال 1967 لإمتلاك مصر صواريخ بعيدة المدى، وضرورة وقفها فوراً، ثمّ تفتيش مواقعها وكذلك المفاعل النووي في أنشاص؟ لمّا رفض عبد الناصر طالباً بمعاملة “إسرائيل” بالمثل مشيراً الى حظوتها بما هو أخطر أي مفاعل “ديمونا”، أسرعت واشنطن بتزويد “إسرائيل” بصواريخ هوك ومئة طائرة من طراز”سكاي هوك”، مع أنّها لم تكن تسلّح حتّى ذلك الوقت “إسرائيل” مباشرةً؟
من يتذكّر فضيحة سرقة أسرار “ميراج” الطائرة الفرنسية التي صنّعتها “إسرائيل” بالتعاون مع شركة جنرال إليكتريك الأمريكية وأسمتها “كفير” التي تعني الشبل أي صغير الأسد وكان أول طلعة تدشين لها في ال 1969 لتستخدمها في حرب أكتوبر مع العرب 1973، ثمّ أدخلتها في الخدمة العسكرية الفعلية حتى أل 1996؟.
ألم تنكشف السرقة آنذاك في سويسرا وحوكم فيها مسؤولين ، وفرنسا لم تقل كلمة رسمية حول الحادثة؟.
من يتذكّر السفينة المحمّلة بالوقود المستخدمة في صناعة القنابل الذرّية المحمولة لحساب الأطلسي، كيف ضاعت في البحار من باخرةٍ لأخرى، لتصل “إسرائيل” في ال 1978، في باخرة أوروبية كانت خرجت فارغةً من ميناء أميركي الى أوروبا. تكتّم الحلف الأطلسي سنوات خمس قبل أن تتسرّب أخطر سرقةٍ في القرن العشرين الى وسائل الإعلام، بهدف إستراتيجي هو تعزيز القوة والنفوذ الدولي ل”إسرائيل”؟
من يتذكّر حادث نسف المفاعلين النوويين في ال1979 اللذين تمّ بناؤهما لحساب بغداد من قبل فرنسا التي وضعت الشروط الكفيلة بعدم استخدامهما في صنع قنبلة ذرّية أو في مهمات عسكريّة؟ نسفتهما “إسرائيل” بالرغم من إحتياطات الأمن العالية، واعترفت فرنسا الرسمية، دفعاً للإحراج الدولي والأزمات السياسية بالتلويح بأنّ “إسرائيل” ملمّة تماماً بهذه الصناعة الشديدة السريّة والتقدم، لكنّ فرنسا وقفت على خاطر بغداد بالقول أنّها قد أنتجت نوعاً من اليورانيوم لا يمكن إستخدامه عسكرياً. وكانت فرنسا قد وقّعت عقدين لمفاعلين آخرين: واحد مع كوريا الجنوبية وآخر مع باكستان ألغتهما أميركا بالضغط على سيول وباريس. وللتذكير، ضغطت أميركا على إلمانيا الغربية لوقف عقد مشابه مع البرازيل.
لا يتّسع المقام لأحداث مماثلة معاصرة.
إذن، لماذا التذكير بهذه العينات ؟
1- للتفكير بمستقبل العرب وخروجهم من الكوارث في زمنٍ شرّعت فيه واشنطن أبوابها للفيليبين و”إسرائيل” ، وتجهد فيه فرنسا مع إلمانيا لبعث العظمة الأوروبية ونفض وصمة الشيخوخة الأميركية عنها. وللتذكير ب”إسرائيل” شبه المنسيّة في الذاكرة العربيّة وكي لا ينصاع العرب مهما تلوّنت أزمانهم وتنابذت وتقاتلت واحمرّت أو غفلت إلى الإعتراف ب”إسرائيل” بعد أعلان القدس عاصمتها ونقل ترامب سفارة بلده شهادة قوية تجعل النظر أو المراهنة على الدول الأخرى نوعاً من الإفراط في الضياع وتفشّي الغموض والتراجع في شتّى الميادين حتّى بالرأي المسموع في القضايا النووية الغامضة والحارّة اليوم بين كوريا الشمالية وإيران.
2- للتفكير بأنّ كوريا الشمالية وأفغانستان يشكّلان المعبر الأميركي نحو ملعب روسيا والصين للأميركي.هناك نقاط صراع دولية تبدو قابلة للإشتعال القوي تحقيقاً لرغبة ترامب وشهيته المتعثّرة للعظمة ولو كانت محفوفة بالأزمات الداخلية والصورة المهتزّة في عين العالم.
هل يتكدّس الغموض الأميركي بسبب التردد الفاضح للبيت الأبيض بين الحلول الدبلوماسية والعسكرية؟
ممكن،
لكن ترامب يجدّد البيت بعدما سحب واشنطن خلال عامه الأوّل من إتفاقية المناخ الدولية في باريس ومن التفاهم الدولي النووي مع إيران، وفرض عقوبات إقتصادية على روسيا وإيران، وقلب دينامية تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، وهدّد فنزويلا وكوريا الشمالية والعالم ينتظر إنعقاد القمة النووية ونجاحها المرتقب أو تأجيلها بينه وبين كيم جونغ أون. وللتفكير أخيراً بأنّ الدول الكبرى لا تظهر عظمتها إلاّ من خارج حدودها مقابل دول العالم الأخرى التي لا حلّ لها إلاّ بالإنتماء إلى داخلها بعيداً من سياسات الإنغلاق والإستعداء والإستجداء والإستقواء أو الإستتباع أو التحدّي المتهور الذي يقود إلى الحروب والمقاصل.
أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه