رأي أمريكي غير نمطي: أثر العقوبات الاقتصادية الأمريكية على إيران

حميدي العبدالله

يردد الإعلام الغربي، وكذلك قادة الدول الغربية السائرون في فلك الولايات المتحدة أقوالاً وشعارات، ويتبنون تحليلات تزعم بأن العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وحكومات غربية على دول ترفض الدوران في الفلك الأمريكي هي عقوبات مؤثرة وترغم الحكومات المستهدفة على تقديم التنازلات، أو جعلها تدفع ثمناً باهظاً لاستمرار ممانعتها. وبسبب هذه الرؤية، تُصّر الولايات المتحدة وحلفائها الغربيون على التوسع في نهج فرض العقوبات على دول كبرى بحجم روسيا، وحتى الصين. علماً أن تجارب تاريخية عديدة أثبتت فشل سلاح العقوبات، وإذا حقق هذا السلاح نجاحاً في بلدان معينة، فإن هذا النجاح سببه ثغرات وأخطاء هذه البلدان وليس سلاح العقوبات. مثلاً العقوبات الأمريكية والغربية التي فُرضت على كوبا منذ ستينات القرن الماضي، أي بعد انتصار الثورة الكوبية وإسقاط النظام الذي كان موالياً للولايات المتحدة، صمدت كوبا في وجه هذه العقوبات، بل حققت ازدهاراً أوسع وأكثر فائدةً للكوبيين مما حققته الدول الأخرى في أمريكا اللاتينية التي ظلّت حليفةً أو تابعةً للولايات المتحدة. صحيفة “واشنطن بوست” نشرت مؤخراً مقالاً حول تأثير العقوبات الأمريكية على إيران، ويمكن القول إن هذا المقال خرج عن الكتابات النمطية السائدة في الغرب والتي تمجّد سلاح العقوبات، يقول كاتب المقال «هذا الأسبوع أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمه على أن يكون الرجل الذي يمكنه تمزيق نصوص الاتفاقية النووية مع إيران، لكنه عمل عن غير قصد على الإسراع بتكريس الظاهرة المتفاقمة بدلاً من العمل على إبطالها، وتتعلق ببروز إيران كقوة جيوسياسية في عالم لم تعد مهمة إعادة تشكيله تعتمد على المصالح الأوروبية والأمريكية وحدها». لاشك أن هذا اعتراف نادر بحدود القوة الغربية أولاً، وفشل سياسة التحدي في مواجهة إيران من قبل الرئيس الأمريكي وحلفائه. وثانياً، ليس هذا كل شيء في هذه المقاربة النادرة التي تم نشرها أيضاً في دورية “بلومبيرغ” الأمريكية، يقول الكاتب «تبني الأمريكيون لسياسات مبنية على الصدام المسلح غير محسوب العواقب، سياسات أدت في النهاية إلى تأجيج المشاعر الوطنية عند الإيرانيين وكرّست قوة نفوذهم وتأثيرهم على بعض القوى والفئات». ويضيف «اليوم يتواصل هذا النفوذ (الإيراني) ويزداد انتشاراً بالرغم من الضائقة الاقتصادية التي يشعر بها الإيرانيون نتيجةً للعقوبات الغربية، كما يبدو أن الجهود الهادفة إلى إحداث انقسام سياسي في أعلى مراتب السلطة في إيران فشلت حتى الآن».

وحول ما سيؤول إليه الحال والمواجهة بعد الانسحاب الأمريكي من الملف النووي الإيراني، يقول الكاتب «إن الأوروبيين يمكن أن يستغلوا الفرصة ويتحللوا من هذه العقوبات، كما أن العلاقات الاقتصادية والسياسية الإيرانية القوية مع الصين والهند، يمكن أن تخفف من الضغط على إيران». الكاتب يذهب إلى أبعد من ذلك في الخروج عن المقاربات النمطية السائدة في الغرب حول العقوبات وأثرها على إيران فيقول إن إيران «التي تمكّنت من تحقيق تطور في المجال العلمي، رغم عزلتها الدولية، ليس من المؤكد أنها ستنهار بالسهولة التي يتوقعها بعض المسؤولين الأمريكيين». هذه المقاربة الجديدة لا تخرج فقط عن سياق المقاربات النمطية التي هي أقرب إلى البروباغندا، بل إنها تذهب أبعد من ذلك وتتحدث عن تقدير حاسم لحصيلة سلاح العقوبات الاقتصادية الذي اعتمدته الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون منذ الحرب العالمية الثانية، إذ يخلص الكاتب إلى القول حرفياً «على كل حال، فقد أثبت أسلوب العقوبات الاقتصادية الهادفة إلى إكراه بلد ما على تغيير سياساته نحو وجهة معينة، أنه أسلوب غير مجدي كثيراً» بل إنه فشل حتى في مواجهة بلدان كان اقتصادها جزءاً من الاقتصادات الغربية مثل باكستان والهند، ويقول الكاتب حرفياً حول ذلك «يمكننا أن نتذكر أن العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على الهند وباكستان لم تكن كافية لمنع البلدين من تطوير قدرتهما على بناء الأسلحة النووية».

الخلاصة، ثمة تغييرات دولية كثيرة تجعل الرهان على سلاح العقوبات شكل من أشكال الانتحار السياسي وربما الاقتصادي، بالنسبة للدول التي تعتمد هذا السلاح، وإذا كان هذا السلاح بالأساس سلاحاً مثلوماً كما أظهرت تجربة كوبا، فإنه بات الآن صدئأً ولم يعد قادراً على تحقيق أي شيء، بعد أن بات من الصعب على الولايات المتحدة والدول الغربية اعتماد هذه العقوبات عبر مجلس الأمن وجعلها مُلزمة لكل دول العالم، وبعد أن برزت مراكز اقتصادية جديدة منافسة للاقتصادات الغربية يمكنها أن تشكل بديلاً للبلدان المستهدفة في العقوبات الاقتصادية الغربية، وعلى الولايات المتحدة والغرب التكيّف مع هذا الواقع الدولي التاريخي الجديد الذي يختلف جذرياً عن الواقع الذي ساد منذ غزو الدول الغربية لدول الشرق واستعمار البلدان الشرقية. اليوم الشرق لم يعد تابعاً اقتصادياً، بل منافساً للاقتصادات الغربية، وهذا واقع لا مثيل له منذ قرون طويلة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى