معادلات المقاومة وصنّاعها وشركاؤها… في العيد: ناصر قنديل
– قد يعيش بعض اللبنانيين عيد التحرير والمقاومة كعطلة إضافية عادية، لأنّ بلد الطوائف والمناطق ضرب الكثير من مقوّمات الحسّ الوطني، حتى كان الاحتلال خلال عقدين من عمر لبنان قضية تخصّ أهله الذين ذاقوا مرارته وذله وصنعوا من أبنائهم وبناتهم مقاومته، وكان الكثير من باقي اللبنانيين بين متفرّج ومحايد أو متبرّم مما يسمّيه المبالغة في رفض تسويات لا بدّ من قبولها في موازين ما يسمّيه الواقعية السياسية. ورغم فشل وَصْفَات التسويات في تأمين الانسحاب الإسرائيلي، وفوز المقاومة برهانها المعقود على دماء شهدائها، بقي مَن يقول قبيل التحرير إنّ وجود المقاومة يعقّد هذا الانسحاب، أما على مستوى الدولة فقد بدأت متآمرة مع الاحتلال حتى إسقاط اتفاق السابع عشر من أيار، وصارت محايدة حتى وصول العماد إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية، فرافقت المقاومة لسنتين من عهده. وهذا يعني أنّ الإجماع على المقاومة ما كان يوماً شرطاً للإنجاز، بل كان القبول به نهاية لقدرة الإنجاز، كما يعني أنّ إخضاع المقاومة لمنطق الدولة بالمطلق يعني موتها وسقوط كلّ إنجازها. فالمعادلات التي تصحّ بتطبيق منطقها بمفعول زمن مضى لا تصحّ لزمن آتٍ، والإجماع الوحيد المقبول هو الإجماع على مستقبل المقاومة بعد التحرير، أيّ اشتراط قبول أهلها بكلّ ما يخصّها، حيث لا قرار بدون رضاها، والعلاقة بينها وبين الدولة هي مساكنة ودية بين ضرورتين لبقاء الوطن وقوّته ومنعته على السياسيين اكتشاف معادلاته وصناعتها .
– الجيل الذي رافق مسيرة المقاومة منذ الاحتلال عام 1982، وتشارك تضحياتها وصناعة إنجازاتها، وتناوب على ريادة ساحاتها، هو جيل يتكامل ولا يتنافس، ويقرّ كلّ أبنائه بأنّ شباب المقاومة الإسلامية كانوا الأكفأ بحمل الراية حتى النصر، بينما لا يغفل قادة حزب الله أنهم أسّسوا وراكموا على ما ورثوه ممن سبقوا، من مجاهدي حركة أمل ومناضلي المقاومة الوطنية اللبنانية بجناحيها القومي واليساري، وقد كان لكلّ منهما بطولات لا تُنسى وإسهامات لا تُنكر، فصارت المقاومة هي التيار الجامع لكلّ هؤلاء الذين تميّزوا بصدق خيارهم وعظيم تضحياتهم، ولهم شهداء وأحياء ترفع القبعة لهم، وقد صار بعض تضحياتهم منسياً، وبعض عائلاتهم ومنها أسر لشهداء كبار، تعيش الحسرة والقهر والفقر، فلهؤلاء بلا استثناء ندين بالعيد والفرحة وشعور العزة والكرامة.
– نستذكر في تلك الأيام الأولى لولادة العمل المقاوم قامات شامخة بالعنفوان، لا تأبه المخاطر، وضعت نصب أعينها إذلال المحتلّ وقهره بلا حساب، بعضهم صار شهيداً وبعضهم لا يزال يواصل بتواضع النأي عن التباهي دوره مقاوماً أو مناضلاً أو سياسياً أو كاتباً أو مساهماً عن بُعد في الشأن العام، والذي يجب أن تتضمّنه كلّ شهادة للتاريخ هو أنّ الشام وحدها كانت تجمعنا نحن الذين كان كلّ لقاء يضمّ منا إثنين تراقبه العيون، وتترصّده آلات التنصّت والقتل أحياناً. ودمشق يومها لم تكن مجرد مكان آمن للقاء، بل كانت غرفة عملياتنا، ومركز التدريب ومصدر السلاح، وبقيت كذلك مع كلّ التغيّرات في هيكيلية مؤسسات الدولة فيها، وتغييرات هيكيلية القوى المعنية بالمقاومة. دمشق التي أراد تلازم فساد لبناني سوري نشأ على ضفاف تلازم مسارين مقاومين أن يشوّه دورها ويخلط بين شركائها الصادقين في خيارات الغرم، وبين المتنفعين الوصوليين ناقلي البنادق من كتف إلى كتف من أهل الغنم، بمعزل عن مصدر الغنم وعنوانه، هي دمشق التي يقتضي الإنصاف بالإعتراف أنه لولاها لما كان للمقاومة كثير مما كان.
– كما في دمشق في طهران، وكما من دمشق من طهران، يلتقي المقاومون دون أن يسألهم أحد عن غير حال المقاومة، ويتلقون الرعاية والمؤازرة، في ما يدعم مسيرة هذه المقاومة ويجعل نصرها قريباً. وبحسرة يذكر كثير من المقاومين أنهم كانوا يفاخرون بالمجاهرة بهويتهم وقضيتهم في غير بلدهم، الذي كانوا فيه يخشون ويحسبون ألف حساب لانكشاف هويتهم واكتشاف قضيتهم، وحتى في زمن قوة المقاومة وانتصاراتها بقي المقاومون يُعرَفون في دمشق وطهران وتجري مناداتهم بصفاتهم كمقاومين، بينما في بلدهم صار اسمهم رموز الوصاية أو جماعة سورية وإيران. وكما كان التحرير عيداً يهديه المقاومون لكلّ لبنان كان النصر في تموز 2006، ومثلما كان في أيار 2000، بقي بعض اللبنانيين يرفض الشراكة في النصر، ويرفض بالأصل اعتباره نصراً، وعينه كما عين «إسرائيل» على سلاح المقاومة، ويطرح أسئلتها ذاتها عن مصيره.
– في عيد التحرير والمقاومة دعوة لتفكير هادئ وتأمّل، ليقف الجميع أمام حقيقة، هل يكون لنا وطن قبل أن نتصالح على حقيقة الصواب والخطأ في تاريخنا الحديث، وليس القديم، هل كانت «إسرائيل» احتلالاً بالفعل؟ وهل كانت المقاومة هي التعبير الوطني الصحيح عن التصدي لهذا الاحتلال، أم انّ كلّ تاريخنا موصول باسم حروب أهلية، أو حروب الآخرين على أرضنا، وفي قلبه يصير الانقسام حول الاحتلال بين التعامل والمقاومة بعضاً من الحرب الأهلية، أو بعضاً من تلاعب الآخرين بنا؟
– الحقيقة الجارحة التي يصعب ربما على البعض قبولها، هي أنّ الحرب الأهلية الحقيقية يجري التأسيس لها بتمييع مفهوم الوطنية، والاحتلال، والمقاومة، فقط كي لا يُحرج بعضنا بعضاً، فيصير التاريخ فعل مجاملات ونفاقاً، والنفاق الوطني أقصر طرق الحروب الأهلية، بينما الوفاق الوطني يبدأ من الإقرار مرةً بحقائق التاريخ.