هل يمكن تسوية الأزمة السورية قبل إجلاء القوات الأجنبية؟: د. عصام نعمان
تكشّفت قمة سوتشي عن نتائج واعدة ومخاطر لافتة. صحيح أنّ الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والسوري بشار الأسد اعتبرا، بل أكّدا، أنّ حال الاستقرار التي تسود سورية بعد دحر الجماعات الإرهابية عن معظم مناطقها تُشجّع على المباشرة بعملية جدّية للتسوية السياسية وإعادة الإعمار، إلاّ أنّ الرئيس الروسي شدّد أيضاً على ضرورة «إخراج القوات الأجنبية» من البلاد بعد القضاء على الإرهاب .
الرئيس السوري نوّه باستعداد بلاده لتسوية الأزمة في سورية سياسياً، وأكد «أنّ دمشق تدعم دوماً وبحماسة العملية السياسية التي يجب أن تجري بالتوازي مع محاربة الإرهاب».
من حقّ الأسد أن يشير إلى استمرار محاربة الإرهاب سواء كان مرتكبوه وكلاء أم أصلاء. فقد اعترف أيمن العاسمي، رئيس اللجنة الإعلامية لوفد المعارضة السورية إلى مؤتمر أستانة، في حديث لصحيفة «الحياة» 18/5/2018 بوجود «مشروع الولايات المتحدة للتقسيم في شرق سورية»، وذلك في معرض دعوته روسيا إلى التوقف عن تبرير دعم الأسد في سياق معارضتها المشروع المذكور.
الحرب على الإرهاب ما زالت، إذاً، مستمرة في سورية وكذلك وجود القوات الأجنبية، وهي في معظمها أميركية وفرنسية وتركية غير مرخّص لها من الحكومة الشرعية بدخول البلاد. فكيف يمكن بوجودها مقاربة التسوية السياسية المرتجاة؟
رَشَح من أوساط قريبة من قمة سوتشي، كما من تصريحات الناطق باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف، أنّ الرئيسين الروسي والسوري توافقا على ضرورة تفعيل «اللجنة الدستورية» التي كان جرى إقرارها في مؤتمر الحوار الوطني الأول بين الأطراف السوريين في سوتشي وأنّ الأسد تعهّد «باتخاذ قرار بتوجيه وفد من قبله إلى الأمم المتحدة لتشكيل اللجنة الدستورية المعنية بالعمل لصياغة القانون الأساسي في سورية على أساس عملية جنيف». غير أنّ الأسد حرص في حديثه بعد القمة على الإشارة الى أنّ اللجنة الدستورية ستعمل على «مناقشة الدستور الحالي» وليس العمل على دستور جديد كما تطالب المعارضة.
صحيح أنّ الرئيسين بوتين وترامب كانا أعلنا في بيان مشترك منتصفَ تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي خلال لقائهما في فيتنام على صيغة «التعديل الدستوري وليس الدستور الجديد والانتخابات الحرة والعادلة تحت إشراف الأمم المتحدة من خلال مسار جنيف وفق القرار 2254»، لكن أحداً لا يستبعد اليوم أن ينقض ترامب ما جرى الاتفاق عليه مع ندّه الروسي، وذلك في غمرة عدائه المتعاظم لإيران ونقده روسيا التي تعارض إلغاء الاتفاق النووي شأن سائر مؤيديه.
احتمال نقض ترامب تعهّده في فيتنام لم يغب عن اجتماع مندوبي روسيا وتركيا وإيران في أستانة أخيراً، ويبدو أنهم قرّروا تجاوز ترامب وصرف النظر عمّا يُسمّى مسار جنيف. فقد صرّح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قناة «تي آر تي» الرسمية أنه «يمكن اعتماد مسار آخر لتسوية الأزمة السورية … وقد تكون أستانة على سبيل المثال».
من الواضح أنّ علاقات أنقرة بواشنطن باتت متوترة وفاترة جداً، ولا سيما بعد اعتراف الأخيرة بالقدس عاصمة لـِ «إسرائيل» ونقل سفارتها إليها. ثم أنّ أنقرة تشعر بأنّ واشنطن ستكون مضطرة، عاجلاً او آجلاً، إلى سحب قواتها من سورية بعدما اقتربت دمشق وبغداد من إعلان طرد «داعش» نهائياً من أراضيهما ما يُفقد أميركا مبرّراً لبقائها هناك. أما بالنسبة إلى المعارضة السورية فهي منقسمة على نفسها ولم تعُد لها سيطرة على أيّ منطقة داخل البلاد. وقد كشف العاسمي في تصريحه الآنف الذكر أنه تمّ الاتفاق بين أطراف مؤتمر أستانة الأخير على طمأنة دمشق بغية وقف هجوم الجيش السوري لتحرير منطقتي إدلب ودرعا، وذلك بتعجيل إعلانهما منطقتي «خفض تصعيد للتوتر» وإقامة نقاط مراقبة لتوطيد هدنة راسخة.
إذ تتهيّأ أنقرة الى مواجهة احتمال دعوتها لإخراج قواتها من سورية، فإنّ سبيلها، على الأرجح، للتعامل مع هذا الاحتمال هو في تحسين علاقتها بدمشق والتفاهم معها على ترتيبٍ يخدم مصلحتهما المشتركة المتمثلة في الحؤول دون قيام الكرد السوريين، بدعم من أميركا، بإقامة كيانات منفصلة عن حكومة سورية المركزية في دمشق.
من المفترض أن يكون الروس والإيرانيون قد بحثوا هذا الأمر مع الأتراك في مؤتمر أستانة الأخير. ذلك أنّ توصّل الأتراك والسوريين إلى اتفاقٍ حول وضع الشمال السوري عموماً بعد انتهاء الحرب على الإرهاب، بما في ذلك إنهاء الأوضاع السياسية والإدارية الانفصالية التي أقامتها الجماعات الكردية المتعاونة مع الأميركيين في شمال سورية وشمالها الشرقي، هو المدخل الصحيح لمطالبة أميركا بإخراج قواتها من قواعدها في شمال وشرق سورية. ذلك أنه لا يبقى لها، في هذه الحالة، من مبرّر لاستبقاء قواتها حيث هي الآن.
هذا السيناريو قد يتطلّب تحقيقه زمناً غير قصير. لذلك من الضروري تفاهم أطراف مؤتمر أستانة مع سورية على الضغط لتعجيل إجلاء القوات الأميركية وعدم ربط ذلك بإخراج القوات التركية. طالما الأميركيون يحتلون نقاطاً استراتيجية على الحدود بين سورية والعراق، فسيكون في مقدورهم أن يلعبوا بـ «داعش» و»النصرة» وغيرهما من الجماعات المسلحة ضدّ بعضهم بعضاً، كما أن يلعبوا بهم مجتمعين ضدّ حكومة دمشق المركزية لتقسيم سورية الى مجموعة كيانات متمايزة ومتناحرة.
باختصار، لا سبيل إلى إدارة محادثات مجدية بين حكومة دمشق من جهة ومختلف معارضيها من جهة أخرى، إلاّ بعد إنهاء قدرة أميركا و»إسرائيل» على المناورة والتعطيل والتخريب. هذا الهدف لا سبيل إلى تحقيقه إلاّ بعد إجلاء جميع القوات الأجنبية، ولا سيما الأميركية منها، عن كامل التراب الوطني السوري.
هذا هو الهدف المركزي لمحور قوى المقاومة في هذه الآونة، أو هو ما يجب أن يكون.
أليس كذلك؟
(البناء)