غرب أوروبا وتكتل الشرق
غالب قنديل
على مجموعة من المحاور يدور الاشتباك بين الولايات المتحدة والقوى الشرقية المناهضة للهيمنة ويتضح ان حصيلة المعارك المتعددة الجارية باتت متوقفة على الخيار الذي سترسو عليه حكومات غرب اوروبا امام الفرص المتاحة لبناء شراكات جديدة مع قوى الشرق الصاعد وخصوصا تكتل روسيا والصين وإيران.
الحساب الافتراضي النظري لمصالح دول غرب اوروبا يقود إلى استنتاج شائع حول ترجيحها لكفة فك ارتباطها بالهيمنة الأميركية التي تكلفها مؤخرا الكثير وتؤذي شبكة كبيرة وواسعة من المصالح الأوروبية كما تنسف العديد من الفرص الاقتصادية والمالية المتاحة والمعروضة على الأوروبيين في زمن الركود والضيق الشديد الذي يطبق على الغرب الرأسمالي برمته.
في جميع القضايا والملفات تقدم قوى الشرق مزيدا من العروض والحوافز لاستمالة الغرب الأوروبي ورغم السخاء الكبير الذي تظهره روسيا والصين وإيران تلتزم الطبقات الحاكمة في الغرب الأوروبي حالة من التردد والسلبية وتتهيب أي افتراق محتمل عن الركب الأميركي بل هي تبدو حريصة على توظيف هوامش التمايز التي تعلنها لفظيا في خدمة مساومات متفق عليها مع الإدارة الأميركية لانتزاع التنازلات من الخصوم والمنافسين.
أولا إن تاريخ التكتل الغربي السياسي والاقتصادي والعسكري بقيادة الولايات المتحدة يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي تصرفت المجموعة الغربية على أنها باتت قيادة العالم الأحادية وقد أذعنت أوروبا للزعامة الأميركية فتكيفت مع أوامرها وسياساتها ومواقفها بينما حرصت واشنطن على تأديب المتمردين ومعاقبتهم لتقديم الأمثولة لمن تراوده فكرة شق عصا الطاعة.
هذا ما أظهره السلوك الأميركي بعد احتلال العراق اتجاه الحكومة الفرنسية التي حرمت من أي فرص للاستثمار في العراق لمخالفتها قرار شن الحرب في البداية فتم إقصاؤها عن الشراكات الدولية هناك ودمرت قواعد دورها التجاري التقليدي الكبير في العراق بينما كوفئت بريطانيا ولو بحصة ضئيلة.
ثانيا لم يكن الإذعان الأوروبي للمشيئة الأميركية حاصلا لأمزجة الحكام والزعماء فحسب بل هو ثمرة سياسية لقاعدة راسخة من البنى المالية والاقتصادية والأمنية المهيمنة التي ترسخت منذ مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وقد أتاحت مسارات الحرب الباردة بعض التمايزات الأوروبية التي خنقتها التحولات مع الوقت بعد انبثاق جماعات مالية وسياسية أوروبية تابعة للمركز الأميركي تتبنى قيمه ومشاريعه الاستعمارية عبر العالم وسجلت تلك المرحلة التحاق اوروبا بالحروب والحملات العسكرية التي قادها الأميركيون فخضعت أوروبا بطواعية سافرة لمنظومة العقوبات الأميركية ضد إيران وروسيا وسورية والصين وفنزويلا وكوريا وكوبا وغيرها وهي عقوبات استهدفت بالأصل المصالح الأوروبية في تلك الدول وقد حرمت الولايات المتحدة على الغرب الأوروبي أي علاقات تعاون تستجيب للعروض التي باشرت تقدمها كتلة روسيا والصين وإيران لأخذ الموقف الأوروبي مسافة عن واشنطن.
ثالثا الحصة الاقتصادية المحفوظة اميركيا لدول الغرب الأوروبي هي فقط السيطرة على أسواق بلدان اوروبا الوسطى والشرقية التي كانت سابقا في حلف وارسو والتي شكلت أسواقا مغرية ومتعطشة تمسك بها اليوم الشركات والمصارف الألمانية بشكل خاص بينما تمثل استعادة تلك الرقعة إلى النفوذ الروسي هدفا لخطط نهوض القوة الروسية بفعل الترابط السكاني التاريخي والثقافي والديني من خلال الرابطتين السلافية والأرثوذكسية وتسعى روسيا إلى تحويل هذا الملف من موضوع نزاع مع ألمانيا إلى حقل شراكة واستثمار اقتصادي وسياسي مستقل عن المشاريع والتوجهات الأميركية ومن هنا تمسكت موسكو وبقوة بفكرة الاتحاد الأوراسي.
رابعا يتناغم اطراف تكتل الشرق الصاعد في المواقف والسياسات ويبدون تصميما على مواصلة المعركة دفاعا عن فكرة عالم متعدد القطبية محرر من الهيمنة الأحادية وعن الاحتكام إلى مرجعيات القانون الدولي محررة من الهيمنة والإملاءات التي تفرضها الولايات المتحدة على الأمم المتحدة ومؤسساتها منذ عقود وهو صراع سوف يطول وتلوح فرص جدية لجذب بعض الدول الأوروبية إلى الفكرة استنادا لحجم مصالحها لكنه رهان غير مضمون بسبب رسوخ مصالح وبنى تاريخية متشابكة تحت لواء الهيمنة الأميركية على المعسكر الغربي برمته.
خامسا يتمتع تكتل الشرق الصاعد بالصبر والنفس الطويل كامتداد للثقافات الشرقية ولطبيعتها الهادئة والمتأنية ولمدى الشرق الواسع المنبسط نحو اطراف العالم وقلبه وهذا التكتل يبتكر أهدافا متواضعة لمبادراته ليحقق تراكما تدريجيا يعزز التمايزات الأوروبية عن الولايات المتحدة ويسعى من ثم لتوسيع نطاقها لينجز التحول النوعي المنشود اما راهنا فآمال روسيا والصين وإيران في زحزحة المواقف الأوروبية لا تتعدى نطاق اختبار فرص التحييد والتمايز والحث على الانسحاب من المغامرات العسكرية الأميركية العدوانية في أحسن الأحوال والأكيد ان شبكة المصالح وقوة العادة وطبيعة النخب الحاكمة في اوروبا تجعل الانقلابات الكبرى احتمالا بعيد المنال.