البُعد الاقتصادي الذي يربك استكمال انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
حميدي العبدالله
تواجه الحكومة البريطانية مأزقاً حقيقياً في سياق خطوتها الأخيرة المتعلقة بتكريس انسحابها الكامل من الاتحاد الأوروبي. هذا المأزق نابع من وجود خيارات جميعها صعبة، وجميعها تترتب عليها أكلاف اقتصادية باهظة، وبسبب هذه الأكلاف، فإن الحكومة البريطانية وكذلك مؤيدي الانسحاب من الاتحاد الأوروبي انقسموا إلى تيارات، وكل تيار تبنى صيغة للانسحاب قد تلائم بريطانيا أو بالأحرى الراغبين بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ولكنها تتعارض مع مصالح الاتحاد الأوروبي الذي رفض ويرفض جميع الصيّغ التي تبنتها التيارات الراعية للانسحاب من الاتحاد .
واضح أن تكتلاً اقتصادياً كبيراً بحجم الاتحاد الأوروبي يمنح كل دولة مزايا لا يمكن الاستغناء عنها، وحتى لو تم الاستغناء عنها فإن كلفة ذلك ستكون كبيرة إن لم تكن باهظة حتى لو كان هذا الاقتصاد بحجم الاقتصاد البريطاني، لأن مجموعة اقتصادات أوروبا أكبر وأقوى وتوفر مزايا تريد بريطانيا الحفاظ عليها، ولكن من دون التكاليف المترتبة على الاتحاد، وهذا ما يرفضه الاتحاد الأوروبي بقوة. لهذا ذكر مفاوض الاتحاد الأوروبي «ميشال بارنييه» بأنه «لن يجري الاتفاق على شيء إلى أن يتم الاتفاق على كل شيء». أي أنه رفض الاقتراحات الاستنسابية التي تقدمت بها لندن لتنظيم رحلة الخروج من الاتحاد، بما لا يترك أي تداعيات سلبية على الاقتصاد البريطاني. ولهذا توقعت دورية «بلومبيرغ» الأمريكية أنه «ربما يكون خروج المملكة المتحدة فوضوياً ومن دون ترتيب، ومكلف إلى أن تدخل في حوار بنّاء عن نوع العلاقة التي ترغب فيها مع أوروبة».
عن البُعد الاقتصادي لمشكلة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نشرت «تيريرزا رفائيل» مقالاً في دورية «بلومبيرغ» خصّصته للحديث عن الخيارات المتاحة والمصاعب التي تواجه بريطانيا، وعلى الرغم من أهمية الحذر إزاء ما يُنشر في الصحف والدوريات الأمريكية حول كل شأن يتعلق بالاتحاد الأوروبي، لأن واشنطن كانت بالأساس تشكك في جدوى الاتحاد الأوروبي، إلا أن المقال يتضمن وقائع صحيحة ويمكن أن يوضح ماهية المأزق البريطاني. تقول رفائيل «كان ضمن الوعود المهمة التي يقوم بها معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي، هو أنه يتعين أن يكون للمملكة كامل الحرية في إبرام اتفاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة وكندا والهند». لكن حسب رفائيل هذا غير ممكن إذا ظلت بريطانيا عضواً «في اتحاد جمركي واحد مع الاتحاد الأوروبي، الذي يفرض عدداً من التعريفات على الواردات القادمة من خارج الاتحاد». هنا تبرز أولى عناصر المشكلة التي تواجه الحكومة البريطانية ومؤيدي الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. هذه المشكلة تتمثل في أن الانسحاب من الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي، تُفقد بريطانيا والاقتصاد البريطاني الكثير من المزايا التي قد لا يمكن تعويضها، سيما وأن الواقع الاقتصادي العالمي يشير إلى أن التجارة البينية تنمو بمعدلات أكبر عندما يكون هناك تقارب جغرافي حتى وإن كان هناك تشابه بالبنية الإنتاجية، وبريطانيا جغرافياً هي أقرب إلى أوروبا من الولايات المتحدة وكندا والهند. ولكن أيضاً البقاء في الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي يقيد حرية بريطانيا في الكثير من مجالات تحركها التجاري والاقتصادي. وبناءً على ما تقدم تستنتج رفائيل «لذلك من وجهة نظر المؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبي، في حال قررت المملكة المتحدة البقاء بالاتحاد، فسيكون بريكست عديم الفائدة، وفي حال الخروج بالكامل، فستكون التجارة أكثر كلفة وصعوبة». إزاء هذا المأزق اقترح بعض أنصار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي مخرجاً آخر يتلخص في «عقد شراكة جديدة في الجمارك، تحصل بريطانيا بمقتضاها على تعريفات الاتحاد الأوروبي للبضائع الموجهة إلى القارة والعكس». ولكن بعض أطراف معسكر الانسحاب من الاتحاد الأوروبي لا تحبذ هذا الخيار، بل ترى فيه فخاً أسموه «حصان طروادة» وحذروا منه لأنه سيتطلب «تقاضياً في محكمة العدل الأوروبية» ويحتاج أيضاً إلى الكثير «من المواءمة التنظيمية».
كل ما تقدم يؤكد أن بريطانيا صوتت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي تحت ضغط عوامل معروفة، هي ذاتها التي أوصلت ترامب إلى البيت الأبيض، وعززت النزعة القومية الاقتصادية، ولكن هذه خطوة لم تكن مدروسة ومحسوبة بدقة، ولهذا يُرجح أن تكون آثارها وتداعياتها على الاقتصاد البريطاني ثقيلة، وإن كان من الصعب أن تعود بريطانيا إلى الاتحاد من جديد لتلافي هذه التداعيات والآثار، فلا التوازنات البريطانية الداخلية تتيح فرصة فعلية للعودة إلى الاتحاد الأوروبي، ولا دول الاتحاد ترغب بعودة دولة كانت معرقلة لمسيرة الاتحاد منذ البداية.