حول الاغتراب اللبناني
غالب قنديل
كانت موجات الهجرة التي شهدها لبنان في الخمسين عاما الماضية أحدث فصول ولادة ما يسمى بالانتشار اللبناني الذي يعود تاريخه إلى القرنين التاسع عشر والعشرين في أقل تقدير نتيجة الحروب والغزوات والصراعات الداخلية.
هجرات ما بعد الاستقلال تعود إلى الحرب الأهلية المديدة والغزو الصهيوني وكذلك إلى عجز النظام السياسي بعد الطائف عن حل مشاكل الفقر والبطالة في المجتمع اللبناني لاسيما في مناطق ما يسمى بالأطراف وقد درج اللبنانيون خلال أكثر من قرنين على اعتبار أقاربهم في الاغتراب مصدر إغاثة ومساعدة في الشدائد وتحويلات المغتربين هي اليوم عنصر مهم في تكوين معادلات اقتصادية ومالية تمنع الانهيار السريع للاقتصاد الوطني الذي استنزفته المديونية وخنقه الركود.
للمرة الأولى دعي المغتربون للمشاركة في الحياة السياسية من خلال الانتخابات النيابية التي جرت مؤخرا وهم يعبرون عموما عن اغتباطهم بالحدث رغم شكواهم من نواقصه التي نجمت عن ضيق المهل وعدم القيام بالدعاية الإعلامية الكافية حول حق المغتربين بالانتخاب وكيفية ضمان هذا الحق وآليات التسجيل في لوائح المقترعين .
المغتربون الذين شاركوا في الاقتراع للمرة الأولى في اماكن تواجدهم يعبرون عن اغتباطهم بفرصة التعبير عن آرائهم وشعورهم بأنهم باتوا شريكا معترفا به من وطنهم وهم يعولون على تطوير التجربة وتحقيق الوعد بترسيخها والحقيقة التي يجب ان تقال ان الشوائب لاتطمس حقيقة الإنجاز رغم شموله شرائح رقيقة ومحدودة من مجموع الاغتراب اللبناني.
الواقع الذي تعيشه الجاليات اللبنانية يستدعي وزارة للمغتربين تكون متخصصة بالملف وتملك القدرة على اتخاذ المبادرات والخطوات التي تحقق الربط المنشود بينهم وبين الوطن بعيدا عن صورة أكياس المال النمطية التي تحكمت بتعامل العديد من المسؤولين مع الاغتراب.
اولا الربط الإعلامي بالوطن هو خطوة يجب ان تحققها الدولة اللبنانية من خلال باقة تلفزيونية وطنية تضم جميع المؤسسات المرئية والمسموعة اللبنانية وتحت رعاية الحكومة اللبنانية يجب ان يجري بثها عبر الأقمار الصناعية ومجموعات الكابل المحلية في دول الاغتراب اللبناني وهذا امر متاح تقنيا ويستدعي المبادرة والقرار.
ثانيا من ادوات الربط الإعلامي بالوطن ان تكون البرامج الخاصة بالاغتراب ومشاكله وقضاياه ومطالبة من اهم بنود مهمة الإعلام العام أي تلفزيون لبنان وإذاعة لبنان وهذا الأمر ليس هدرا للإمكانات بل هو استثمار وطني هام يمكن ان يغطي كلفته كجسر تواصل اقتصادي وإعلاني بين الوطن والمهجر تدعى إلى تمويله المصارف التي تبحث عن توسيع محفظة ودائعها واستثماراتها والقادرة على بلورة برامج خاصة بالاغتراب مع تسهيلات خاصة وحوافز لمساهمات المغتربين في تنمية قطاعات الإنتاج في الوطن.
ثالثا إن اخطر مشكلة تهدد الاغتراب والعلاقة بالوطن هي اندماج الأجيال الشابة بالمجتمعات الأجنبية وضياع الهوية الوطنية وهو ما تتصدى له بعض الجمعيات التي أنشأها المغتربون بإمكانات متواضعة لكن هذا الأمر يفترض سياسة وطنية تؤمن خطة حكومية لنشر ودعم مدارس تعليم اللغة العربية في الاغتراب ورعاية نشاطات ثقافية وفنية وبلورة خطة لتحفيز ودعم ادوات الوصل عبر الإعلام الجديد الذي يستهوي الأجيال الشابة لربطها بالوطن وبقضاياه وهمومه وتطلعاته.
شرايين الحياة الواحدة والمصير الواحد هي التي تحيي العلاقة الفعلية بين الوطن والاغتراب الذي يفترض ان تتم رعايته بعيدا عن أي حساب فئوي ضيق على خلفية صراعاتنا السياسية وأمراضنا التي شكل نقلها إلى الاغتراب عامل إحباط وتثبيط لشوق المغتربين إلى المساهمة في الحياة الوطنية كما هو عنصر استنزاف وانقسام يسيء للوطن وللمهجر يقضي على أي امل جدي في استعادة الصلة الحية والمنتجة بين المقيمين والمغتربين التي هي جسر نهوض لبناني يمكن ان نكتشف فيه قدرات هائلة وعظيمة حجبتها عن العيون والعقول حمى العصبيات والصراعات العقيمة .
لدينا جاليات لبنانية عديدة مؤهلة بالقليل من الرعاية الحكومية وفي العديد من الدول لتغدو قوة ضاغطة لصالح لبنان وقضاياه ومصالحه من خلال مساهمتها في الحياة السياسية لدول الاغتراب وعبر تأثيرها على خيارات وبرامج الأحزاب السياسية وقطاعات الرأي العام في عشرات الدول الكبيرة والصغيرة.