على مفترق طرق بقلم: د.بثينة شعبان
بعد مضيّ بضعة أشهر على رئاسته الولايات المتحدة، والأوامر التنفيذية التي يباهي بتوقيعها، رغم تناقضها مع كلّ المواثيق والأعراف الدولية، فقد وضع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، العالم برمّته على مفترق طرق. والصفّ الأول من الدول على هذا المفترق هم حلفاؤه التقليديون في أوروبا لأنّ شكل العالم وتحالفاته سيعتمد على الموقف الذي سوف تتخذه وتستقرّ عليه هذه الدول الأوروبية. ولا شكّ أنّ العدوان الذي شنّه الكيان الصهيوني على المواقع العسكرية السورية، وادعاءات هذا الكيان السريعة والكاذبة بأنّ عدوانهم كان ردّاً على هجموم إيراني، لا شكّ أنّ هذا العدوان يهدف أولاً، وقبل كلّ شيء، لجرّ الأوروبيين إلى تبنّي بعبع الخطر الإيراني وضرورة انسياقهم وراء السيد الأمريكي في انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني، وتكريس حالة سطوة القوّة الغربية. السؤال هنا هو ما إذا كانت القيادات الأوروبية تتمتّع بالجرأة والشجاعة لتتخذ خطاً مستقلاً في سياساتها، أم أنها لا تجرؤ إلا أن تكون تابعاً كما درجت على ذلك منذ الحرب العالمية الثانية. وفي الصفّ الثاني على هذا المفترق تقف الولايات المتحدة ذاتها بحزبيها وكونغرسها الواقعين تحت ابتزاز وضغينة اللوبي الصهيوني، كما هو حال ترامب نفسه. هل سوف يستمرّ الأمريكيون بالتزام الصمت تجاه سياسات الهدف الوحيد منها هو دعم الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي، أم أن يقظة ما ستشهدها الولايات المتحدة كي تعلن أنها دولة مستقلة عن الاحتلال الصهيوني لقرارها السياسي، وأنها قادرة على صنع قراراتها بما يتناسب ومصالح شعبها، بعيداً عمّا خطّط له الصهاينة لتحقيق أهداف الصهيونية العدوانية التوسّعية.
لقد كان لافتاً أنّ ردود الفعل الصادرة عن الكيان الصهيوني كانت احتفالية بامتياز، وصلت إلى درجة التمجيد بهذا القرار، ولم يكن خافٍ على أحد أنّ الكيان الصهيوني اعتبر هذا القرار بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني بما يناقض إرادة كلّ الأطراف التي فاوضت للتوصّل إلى هذا الاتفاق، اعتبر هذا القرار انتصاراً للكيان الصهيوني نفسه، ربما حتى على الذين يعتقدون أنهم يحكمون في واشنطن. وتبع هؤلاء حكّام الخليج الذين عبّروا عن ارتهانهم للإرادة الصهيونية في مناسبات سابقة، وأعادوا التأكيد عليها بعد إعلان ترامب انسحابه. ولكن ومقابل هؤلاء، وقفت أوروبا وروسيا والصين، والأهمّ وقفت إيران، معلنةً تمسّكها بهذا الاتفاق بكلّ حكمة ورباطة جأش من منظور من يرى التاريخ بماضيه ومستقبله أهمّ من حضور ترامب الطارئ على هذا التاريخ. لقد خسرت الولايات المتحدة في هذا الانسحاب قيمة دولية هامّة، ألا وهي مصداقيتها. فمن ذا الذي سيثق بعد اليوم بتوقيع الوزراء والرؤساء الأمريكان على أيّ وثيقة دولية، أو باحترام أيّ اتفاق يمكن أن يبرم معهم إذا كان هذا الاتفاق الذي فاوض من أجله ستة من كبار دول العالم، وتمّت المصادقة عليه بقرار من مجلس الأمن قد تمّ التنكر له بهذه الطريقة التي لا تليق بأيّ دولة أو أيّ طرف، حتى لو كان صغيراً أو هامشياً، بينما استوعبت إيران الصدمة بسرعة مذهلة، وتصرّفت كدولة تحترم شركاءها، وتحترم توقيعها، وتحترم التزاماتها الدولية، وبهذا فقد ربحت إيران مصداقية حتى داخل الولايات المتحدة نفسها، بينما خسرت الولايات المتحدة مصداقية في العالم أجمع، وحتى داخل الولايات المتحدة أيضاً؟
إذا استذكرنا أنّ الكيان الصهيوني هو الذي روّج للحرب على العراق، وهو الذي نشر الأكاذيب والافتراءات حول أسلحة الدمار الشامل في العراق إلى أن ورّط الولايات المتحدة بحرب خاسرة على كلّ الصعد، وهو ذاته اليوم الذي يروّج للأكاذيب حول سورية وإيران، فلا شكّ أنّ الشعب الأمريكي أو بعضاً منه، على الأقلّ، بدأ برؤية خطورة هذا الكيان عليه، والسياسات التي لا ينفكّ يورّط بها الولايات المتحدة، مرةً تلو أخرى، ولذلك فإنّي أعتقد أنّ هذا الكيان يقف على مفترق الطرق أيضاً في الولايات المتحدة الأمريكية، ولن أستغرب إذا ما عبّر الشعب الأمريكي في انتخاباته النصفية القادمة عن استيائه الشديد من سياسات ترامب، وارتهانه لسياسات الكيان الصهيوني، وانسياق الصهاينة الجمهوريين وراء ترامب، واضعين بذلك خضوعهم لابتزاز اللوبي الصهيوني في درجة أعلى من مسؤولياتهم تجاه الولايات المتحدة، ومصالحها، ومصداقيتها. في السياسة تستغرق الظواهر وقتاً حتى تنضج، وحتى يتحوّل الشعور أو الفكرة إلى عمل ملموس، ولذلك فإنّي أرى ما حدث في الثامن من أيار عام 2018، والتوقيع الذي فاخر به ترامب أمام كاميرات التلفاز، أراه مفترقاً خطيراً لمن كان وراءه ولمن قام به، ومفترقاً عظيماً لمن استوعبه، وسيطر على ردود فعله، واستمرّ في دراسة الحالة قبل أن يتخذ قراراً بالتحرّك. التحدّي الأول والأهمّ الذي تواجهه أوروبا اليوم هو إما أن تثبت أنّها دول مستقلّة ذات سيادة، وأنها مساهمة حقيقية وموثوقة في السياسة الدولية، وإمّا أن تبرهن للمرة الأخيرة أنها مجرّد تابع للولايات المتحدة وإسرائيل، وبهذا لن يقيم لها أحد بعد ذلك وزناً في الحسابات الدولية. القادة التاريخيون هم الذين يرون ماذا سيسجّل التاريخ، وليس فقط ماذا يصنع اليوم أو غداً، ولا أعلم كم من هؤلاء يقود اليوم في أوروبا أو العالم. سؤال مفتوح نترقّب الجواب عليه من خلال متابعة تداعيات مواقف الدول على قرار ترامب.