كتاب مفتوح الى هيئة الإشراف على الانتخابات: ناصر قنديل
– أتوجّه بهذا الكتاب المفتوح لكم، لأنني أحمل كل التقدير والاحترام لأشخاصكم رئيساً وأعضاء في الهيئة المنوط بها الإشراف على الانتخابات، ولأنني أراها ضرورة دستورية متقدّمة لا يجب السماح بإجهاضها، ولأنني واثق من رعب لدى الممسكين بالسلطة من كل رقابة مستقلة وعجزهم عن رفضه أو تجنبه بالمقابل، لأنهم استنفدوا كل باب للثقة بتولّيهم هذه الرقابة، فصار تفخيخ النصوص هو الحال في كل وضع مشابه، ترمى كرة النار على عاتق هيئة تستوحى من نماذج ديمقراطية أخرى. ويجري الإيحاء بالتسمية أنّها مستقلة، ويتم تجويف المهمة سلفاً بنصوص غامضة، ووضع الهيئة التي يفترض أنها وجدت ضامناً للديمقراطية، بوجه معادلة الحرية التي يمثلها الإعلام بمؤسساته. وهي مؤسسات ليست موجودة أصلاً خارج لعبة المال والطائفية والسلطة والفوضى، لكنها تبقى بكل شوائبها نافذة الحرية وآلة الرقابة الفعلية على أداء السلطة ورموزها، في توازن رعب ينشئه احتكام الإعلام للرأي العام في قياس نجاحه وموارده، وفي النجاح بالمرور بين تناقضات الحاكمين، فنصف الحقيقة من هنا ونصفها الثاني من هناك يسمحان للمتلقي بتجميع الشظايا وبناء صورته الخاصة شبه الكاملة .
– النصوص الصريحة لقانون الانتخاب حول مسؤولية الهيئة الرقابية على الإعلام، ودخولها بالتفاصيل مقابل غموض وعمومية وابتعاد متعمّد عن توضيح الآليات الإجرائية، عند الحديث عن الرقابة على المرشحين وحملاتهم، وخصوصاً تكافؤ الفرص بينهم، بتحييد مرافق الدولة ومؤسساتها ومنابرها وخدماتها وأموالها وأجهزتها عن الاستخدام الانتخابي، تكشف النيات بدفع الهيئة للفشل في تحقيق الغاية المرجوّة نظرياً وهي ضمان نزاهة العملية الانتخابية، من دون تحمّل السلطة ومن يتولاها مسؤولية هذا الفشل، ولسان حالهم «لقد شكّلنا لكم هيئة مستقلة للإشراف وليس الإشراف مسؤوليتنا»، وهم يعملون أنهم عاملوا الهيئة وفقاً لقول الشاعر، «ألقاه في البحر مكتوفاً وقال له إياك أن تبتلّ بالماء»، ومن جهة مقابلة ترك الهيئة تتخبّط في صدام مع الإعلام يصل حدّ خلق الشعور بالاستهداف للحرية، نتيجة الشعور بالغبن، لأن المكان الذي يفترض رؤية فروسية الهيئة ومهابتها فيه، هو التصدّي لجموح وتوحش رموز السلطة في ممارسة التجاوزات بلا حساب. وهذا التصدي هو الذي يمنحها حصانة موضوعية ضرورية لمحاسبة الحلقة الأضعف، وهي الإعلام. وهذا كافٍ ليشعر الإعلام بالإنصاف حتى عندما يجري الأخذ على يده.
– لذلك كله يصير السؤال الطبيعي هو كيفية التعامل مع هذا الالتباس النموذجي، المدروس والمبرمج، والحل ليس الانكفاء ولا الاكتفاء طبعاً، لا الانكفاء باستقالة تخالف مفهوم المسؤولية الوطنية الكبرى والمصلحة العليا للدولة كمفهوم قانوني ودستوري، ولا الاكتفاء بممارسة متحفّظة للمسؤولية المنصوص عليها، والقول اللهم أشهد أني قد بلغت، أو لم يكن بالإمكان أفضل مما كان. فالقوانين أيّها الأساتذة المحترمون كما تعلمون تكمّلها الأعراف، والأعراف يصنعها الشجعان أمثالكم الذين ينطلقون من روح القانون لمنح الوضوح لنصوصه الغامضة، لأنهم يدركون أن الديمقراطية تراكم أعرافاً أكثر مما هي تراكم نصوصاً. ويعلم الأستاذة رئيس وأعضاء الهيئة وبينهم رجال قانون كبار، أن النص الأصلي التعريفي لمهمة الهيئة كهيئة رقابة محدثة له صفة الإطلاق ما لم تحدّه نصوص أخرى تمنح صلاحيات الرقابة لجهة ثانية. وفي المادة الرابعة من مهام الهيئة هذا الإطلاق «مراقبة تقيّد اللوائح والمرشحين ووسائل الإعلام على اختلافها بالقوانين والأنظمة التي ترعى المنافسة الانتخابية، وفقاً لأحكام هذا القانون»، وحيث لا وضوح كافٍ للكيفية التي تمارس فيها الهيئة هذه المهمة، لا تحديد موازٍ لقيام سواها بما يحقق غاية هذه المهمة. ما يعني أن صفة الإطلاق هنا تمنح الهيئة صلاحية إنتاج أعراف الممارسة، وابتكار الآليات ضمن الحدود التي قيّدها بها القانون، وفيها في المادة الثامنة من المهام «ممارسة الرقابة على الإنفاق الانتخابي وفقاً لأحكام هذا القانون». وفي المادة الحادية عشرة من نص المهام «تلقّي الشكاوى في القضايا المتعلقة بمهامها والفصل بها، ويعود لها أن تتحرّك عفواً عند تثبتها من أية مخالفة وإجراء المقتضى بشأنها»، أما في الآليات فقد نصت المادة الثانية عشرة «يمكن للهيئة أن تستعين عند الضرورة بأصحاب الخبرة المشهودة في الاختصاصات المرتبطة بالانتخابات وشؤونها»، ما يعوّض نقص الكادر الوظيفي والتعاقد مع شركات متخصصة للقيام بمهام التوثيق والتحقق والمتابعة لوضع التقارير بالوقائع الدقيقة في كل من مجالات الرقابة أمام الهيئة، وفقاً لقواعد مهنية احترافية.
– في بناء الأعراف أيضاً تستطيع الهيئة أن تخاطب الرأي العام بتقارير أسبوعية تصير يومية مع اقتراب موعد الانتخابات ترصد المخالفات وتنشرها، فيصير الرأي العام شريكاً لها في ممارسة الرقابة، والسؤال البديهي، ماذا لو وجّهت الهيئة تنبيهاً لمرشح وزير يتجاوز حد السلطة في وزارته بتوظيفها لحملته الانتخابية، هل يخالف هذا صلاحياتها؟ أم يكفي لتجنّبه أنه لم يرد في تحديد صلاحياتها بنص واضح، وقد لا يرد مطلقاً؟ وماذا لو نشرت الهيئة أسبوعياً تقارير تدقيق مكاتب محاسبة بإنفاق المرشحين مقارنة بما يفيدون به، أو نشرت تقارير بالمخالفات يرتكبها المرشحون مرفقة بالتنبيهات الموجّهة لهم، وتولت تنبيههم علناً قبل تخطي السقوف المسموحة مالياً وقبل بلوغ التجاوزات حدّ تهديد إبطال نيابتهم في الطعون اللاحقة للعملية الانتخابية، أليس هذا مستوى الشفافية والنزاهة الأمثل الذي ينشده القانون، رغم عدم تضمينه نصوصاً واضحة لكيفية تحقيق هذه الغاية، لكن ألا يكفي الهيئة للقيام به أن القانون لم يمنح هذه الصلاحية لجهة أخرى، وأن الهيئة هي الجهة الأوسع مسؤولية عن الإشراف على الأداء الانتخابي للمرشحين ومراقبة تقيدهم بالقانون؟ وصلاحيتها هي كل ما ليس هناك نص واضح على أنه صلاحية سواها، وسواها ليس مطالباً بذلك بعد ولادة الهيئة، وسيتوسّع لسد الفراغ الذي تتركه له الهيئة متذرّعاً بالمصلحة العليا للدولة ومفهومها، لكن المصلحة العليا للدولة تحضر هنا بمفهوم سد الفراغ التشريعي بالممارسة ومراكمة الأعراف، وهي مهمة بين أيديكم وتنتظر مبادراتكم.
– السادة رئيس وأعضاء الهيئة المحترمين، آملاً أن ينال هذا الكتاب بعضاً من عنايتكم، من موقع الحرص على مراكمة البناء الثابت لمداميك الديمقراطية التي تشكلون أحد حراسها، وأمامنا عشرة أيام قبل التوجّه لصناديق الاقتراع هي فرصة لا تقدّر بثمن لتكون لنا منكم أمثولة في كيفية تطبيق النص القانوني المرجعي الذي يحدّد مهمتكم وينتظره منكم اللبنانيون «مراقبة تقيّد اللوائح والمرشحين ووسائل الإعلام على اختلافها بالقوانين والأنظمة التي ترعى المنافسة الانتخابية، وفقاً لأحكام هذا القانون».
– ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جلُّه، فالخطوة الأولى دائماً تكون غير مكتملة، لكنها اقتراب صادق من الهدف المنشود، هو حق اللبنانيين عليكم، مع كل الاحترام والمحبة والتقدير.