تطبيق الدستور يحل المعضلة
غالب قنديل
أثار الرئيس ميشال عون مؤخرا فكرة التناقض بين مبادئ العدالة والمساواة والصيغة الطائفية للنظام اللبناني التي تشكل قيدا خطيرا على أي طموح لبناء الدولة الحديثة التي يجمع عليها كثيرون في المجتمع اللبناني وإن اختلفت تسمياتهم لها او تباينت فقد تحدث الرئيس عون عن الدولة العلمانية كهدف لا بد منه لتخطي المعضلة الخطيرة اللصيقة بالنظام اللبناني بينما يقول آخرون بالدولة المدنية اللاطائفية وعند التدقيق يتطابق المفهومان في المحتوى وكلا الطرحين يقصدان الهدف نفسه ففي لبنان دولة علمانية نظريا من حيث اعتماد القوانين الوضعية وغياب أي من مظاهر التداخل بين الاديان والتشريع باستثناء الأحوال الشخصية التي اقترح لها العديد من المشرعين الإصلاحيين فكرة القانون الاختياري.
القائم في لبنان هو صيغة طائفية لتكوين السلطة تحكم قبضتها على المؤسسات والقوانين وهي ولادة الفساد ومصدر حمايته وتحديث الدولة يقتضي تجاوز هذه الصيغة وفقا لآليات دستورية وإجرائية تضمن الانتقال إلى دولة عصرية محررة من قيود التقاسم الطائفي وتمنع تجديد العصبيات الطائفية التي تمزق المجتمع وتعيق تبلور هوية وطنية جامعة.
الأمر برمته غني عن الاجتهاد والتأويل طالما تتوافر في نصوص الدستور آلية محددة للتعامل معه لكنها معطلة بفعل فاعل منذ الطائف وللتاريخ لابد من الاعتراف للرئيس نبيه بري انه كان خلال العقود الثلاثة الماضية صاحب المبادرات اليتيمة لمحاولة تطبيق المادة 95 من الدستور من خلال اقتراحه المتكرر للانتقال إلى نظام المجلسين خلال محاولات متلاحقة لسن قانون انتخاب جديد وجاء القانون الذي تجري على أساسه الانتخابات النيابية حاليا في نسخة مشوهة لما نص عليه الدستور لجهة ان يكون المجلس النيابي منتخبا خارج القيد الطائفي وفي لبنان دائرة واحدة مع النسبية إلى جانب مجلس للشيوخ الذي يمكن ان ينتخب أعضاؤه على أساس التمثيل الطائفي وفي الدوائر الصغرى وهو ما سعى إليه الرئيس بري من سنوات.
نص الدستور على مهام الهيئة العليا لإلغاء الطائفية وحددها بدراسة واقتراح القوانين والمراسيم المكرسة لتجاوز الطائفية وإحالتها إلى كل من السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وهذا امر يطال الكثير من وجوه الحياة العامة وعمل المؤسسات العامة في الدولة.
حين تشكل تلك الهيئة ستجد امامها جدول أعمال طويل ومتشعب من مناهج التعليم إلى قانون الأحوال الشخصية إلى محتوى الأداء الإعلامي وضوابطه ومضمون النشاط الثقافي والفني المتوجب تحريكه وإطلاقه في لبنان للمساهمة في تجاوز العصبيات الطائفية وتنمية هوية وطنية جامعة للشعب اللبناني.
البداية العملية لكل ذلك هي تطبيق المادة الخامسة والتسعين وتنطلق من تشكيل الهيئة العليا ومباشرة أعمالها الدستورية والقانونية والإجرائية بناء على طلب فخامة الرئيس إلى المجلس النيابي الذي سينبثق عن الانتخابات الحالية.
أيا كانت الآلية الإجرائية لابد من السير في هذا الاتجاه لخفض توتر العصبيات والانقسامات العامودية في المجتمع اللبناني وهي عبء خطير واستنزافي على الحياة العامة وعلى فكرة الدولة ومؤسساتها وهي تبديد لطاقة البلد ولأي جهد لتنمية القدرات الوطنية في جميع المجالات.
لقد بينت الحملات الانتخابية درجة عالية من التخلف والرجعية عبر اعتماد بعض القوى لخطب التحريض الطائفي والمذهبي ولاستباحة بث الكراهية بين المواطنين وتحريض بعضهم ضد البعض الآخر وإحياء احقاد ومظاهر متطرفة تنتمي لسنوات الحرب الأهلية البغيضة بكل ويلاتها.
أظهرت لنا الخطب الانتخابية نماذج من المقامرين بالسلم الأهلي لم يتربوا او يتعلموا من الخضات المريرة التي اجتازها البلد وبصعوبة بفضل حكمائه وكباره الذين عملوا في السنوات الماضية مثل إطفائيي الحرائق خلف مشعلي الفتن وحماة مدبريها والمحرضين عليها.
بكل صراحة وفي خضم الحملات الانتخابية ظهر كثير من تلك الجرائم المتمادية ضد السلم الأهلي والوحدة الوطنية ومن المعيب ألا يجري ضبط هذا الوجه الشنيع للخطب الانتخابية بواسطة تدخلات قضائية عاجلة تمنع تعميم اللغة المؤذية والكريهة عبر وسائل الإعلام على الأقل والأمر يتخطى صلاحية هيئة الإشراف على الحملات الانتخابية.