ذكرى الحرب :”ولولا فسحة الأمل”
غالب قنديل
اليوم هي ذكرى اشتعال دورة العنف المدمرة التي يسميها اللبنانيون حرب السنتين او الحرب الأهلية التي كانت محطة خراب ومجازر وتهجير وتدخلات غربية صهيونية وعربية شكلت امتدادا لسيرة طويلة من التشابكات التي ميزت تاريخ لبنان منذ الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي وما سمي بعهد الاستقلال وقيام الجمهورية اللبنانية.
طائفية النظام السياسي والمجتمع اللبناني كانت الوعاء الذي فعل جميع الخطط الأميركية الصهيونية التي رسمت وتم تنفيذها لتمزيق هذا البلد واختبار ادوات تدخل وتخريب منهجية تم تأصيلها في لبنان وجرى استخدامها لاحقا في دول اخرى في المنطقة والعالم وكان آخرها ما جرى في سورية منذ انطلاق العدوان الاستعماري الذي استهدفها بنتيجة الخطط الغربية والإقليمية والصهيونية خصوصا.
حتى الساعة ما تزال فكرة نزع الطابع الطائفي عن النظام اللبناني والانتقال إلى دولة معاصرة ومؤسسات راسخة على أساس المواطنة حبيسة الصيغة الطائفية للنظام المحصن بشبكة راسخة الجذور من المصالح تتيح للصيغة الطائفية إعادة إنتاج نفسها بأشكال وانماط متجددة ومنذ اندلاع الحرب الأهلية في 13 نيسان 1975 تصاعدت المظاهر الطائفية للحياة العامة وللبنى السياسية وللثقافة الجماهيرية السائدة وقد عززتها بنى ومؤسسات اقتصادية واجتماعية اهلية ذات طابع طائفي واكبت جميع تسويات ما بعد الحرب وحكمتها.
لقد بات الواقع الاجتماعي اللبناني محكوما بسلسلة من مرتكزات الانتظام الطائفي تتعدى بنطاقها ومحتوياتها حدود توزع الولاءات السياسية للقيادات والزعامات الطائفية التي تتلطى خلف العصبيات لحماية مصالحها المادية والسياسية داخل النظام .
دورة الحياة اليومية تربط اللبنانيين بعصبيات طوائفهم على حساب انتمائهم الوطني من خلال سلسلة مؤسسات تعليمية حتى الجامعة وعبر منظومة طبابة واستشفاء وأشكال متعددة من التكافل الاجتماعي تحت عنوان المساعدة والإغاثة ودور الأيتام والعجزة مما تموله أو تستثمر فيه المرجعيات الطائفية المتعددة من اموال الأوقاف التي تمثل امبراطوريات مالية قوية وخارج الأضواء تتصرف بها المرجعيات الدينية وبطاناتها من المتمولين والمصرفيين وتجار العقارات.
المرافق والمستشفيات والملاجيء واستثمارات الأوقاف ومؤسسات التعليم وسواها موزعة بانتظام ومحمية ومحصنة بتشريعات خاصة تحت رعاية السلطة السياسية بينما مؤسسات الدولة الموازية تقلصت وتضاءل حجمها وتراجع مستواها وضمرت احيانا بصورة شبه كلية وتاهت في ازمات تهدد وجودها كحال التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية والمستشفيات الحكومية.
تتوه المواطنة كثقافة متخيلة للفرد في بحر متلاطم من الحاجات شديدة الوطأة والخدمات الملحة التي يرده السعي نحوها إلى عصبيته وهويته الافتراضية وتبعيته لمرجعية دينية وسياسية تتصل بالطائفة وموقع ممثليها في صيغة تقاسم السلطة المتجددة وبطابعها الطائفي.
رسوخ الطائفية في التركيبة المجتمعية والسياسية اللبنانية كان في صلب دورات العنف والاستقواء بالتدخلات الخارجية الغربية الصهيونية والخليجية والعربية وهو في خلفية الكثير من المظاهر الكريهة للحرب اللبنانية التي اندلعت في مثل هذا اليوم ومما لاشك فيه ان عملية النقد الذاتي في لبنان رغم الزمن الطويل الذي انقضى ما تزال محدودة على مستوى الأحزاب والحركات العلمانية التي حكمها القصور والتقلص والتراجع مع طغيان المناخ الطائفي وتحولت إلى قوى غير فاعلة او مقررة رغم ما تفترضه من ظروف سانحة لتعظيم دورها ومساهماتها في الحياة الوطنية ورغم مبادراتها الشجاعة في بعض الاحيان وخصوصا في مقاومة الاحتلال الصهيوني.
يسود في استذكار الحرب واندلاعها نزوع أخلاقي لإدانة مظاهر العنف الأهلي وهذا جيد ومفيد لكنه غير كاف لمجابهة المعضلة المتجددة والمستمرة التي تجعل من الطائفية السياسية قيدا فعليا على التقدم الاجتماعي والسياسي وهي مسألة قدم الدستور اللبناني بعد اتفاق الطائف نافذة مفتوحة لتجاوزها وتفكيكها في المادة 95 التي تنص على تشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية لكن هذه النافذة مهملة عن قصد بفعل شبكة المصالح الجديدة لمن تعاقبوا على السلطة بعد وقف الحرب وغنموا من تقاسم المنافع في النظام الطائفي بعد تعديله وتكيفه السياسي وربما يكون قانون الانتخاب الجديد على علاته وعيوبه فرصة مواتية لتحريك المياه الراكدة بمبادرة تعرض على المجلس المقبل لتنفيذ المادة الدستورية المعلقة وكتابة نقطة البداية في مسار جديد و”لولا فسحة الأمل” !.