كذبة التميز الفرنسي
غالب قنديل
تتعامل بعض النخب اللبنانية مع السياسة الفرنسية بمنهجية تحمل أعراض ما يسمى بمتلازمة ستوكهولم او استلاب الضحية امام الجلاد بحيث يظهر هؤلاء شيئا من التأثر بالخطاب السياسي الفرنسي الخادع المشحون بعواطف منافقة اتجاه المنطقة وشعوبها ليست سوى غلاف تسويقي لمشاريع الهيمنة والاستتباع.
يتأثر هؤلاء بمزاعم ” الأم الحنون ” فينزهون النخبة الفرنسية الحاكمة عن اللعنات والآثام الاستعمارية اللصيقة بالجبروت الأميركي وبطغيانه رغم صلافة الانخراط الفرنسي في الغزوة الاستعمارية للشرق العربي منذ احتلال العراق وخضوع جاك شيراك الذي حاول ممارسة تميز لفظي في خطابه السياسي ثم انطوى تحت جناح واشنطن وانضبط منفذا تابعا لأدق التعليمات الأميركية متسولا فتات دور هامشي في الشرق الذي وضعته النيران الأميركية الصهيونية في جحيم الحروب والمعارك مباشرة او بواسطة عصابات التكفير الإرهابية خلال العقدين الأخيرين.
تظهر حالة الخضوع الفرنسية للعقوبات الأميركية ضد روسيا وإيران والشراكة الفرنسية المكشوفة في الحرب المتواصلة ضد سورية ذيلية فرنسية لا امل في شفاء فرنسا منها لأن ما فات الواهمين هو حصول تحولات هيكلية في بنية البرجوازية الفرنسية محكمة الربط بالاحتكارات الأميركية الكبرى وقبض بيوت المال والمصارف الأميركية الكبرى على الاقتصاد الفرنسي ونجاح الطغمة المالية المعولمة في السيطرة على النادي السياسي الفرنسي منذ عهد فاليري جيسكار ديستان وصعود اخطبوط اللوبي الصهيوني في ثنايا هذه التحولات وظهوره على المسرح الفرنسي بقوة وحيث يمثل انتخاب الرئيس الحالي مانويل ماكرون مثالا نموذجيا وهو القادم من أحد اهم بيوت المال الأميركية النافذة في باريس وهي شركة غولدمان ساكس الأميركية الصهيونية التي تسهم في تمويل عجز الخزينة الفرنسية ومسك دفاتر وأسهم العديد من الشركات الفرنسية.
تحتفظ باريس بغلاف التميز الموروث والمتهتك في قضايا جزئية دون المس بجوهر استراتيجيات الغزوة الاستعمارية الصهيونية وتغتبط بأدوار هامشية توظف لها وزنها ودورها في خدمة الاستراتيجيات الأميركية ومن ذلك جهدها المخصص لدعم بعض بلديات الضفة الغربية المحتلة وهي تجمع وسمها للمقاومة بالإرهاب ومعارضتها المعلنة لتوسع الاستيطان الصهيوني في الضفة المحتلة بينما هي عدو شرس في استهداف سورية.
في لبنان تنافق فرنسا قيادة حزب الله في حفلة علاقات عامة تتصل بوجود مساهمة فرنسية في قوات اليونيفيل لكنها لم تتخذ أي موقف واضح من نهج الاعتداءات الصهيونية المتكررة والخرق الصهيوني المستمر للسيادة اللبنانية رغم دورها الرئيسي في رعاية القرار 1701 وتطبيقه المفترض وهي طلبت من حزب الله ضمانات كثيرة قبل إرسال جنودها بعد حرب تموز ولا تجرؤ على المجاهرة بهذه الحقيقة بل تساير كثيرا من فصول الاتهام الأميركي الصهيوني للمقاومة بالإرهاب وتلتزم بالعقوبات المالية والمصرفية ضد لبنان بل وهي المسؤولة الأولى عن معاقبة قناة المنار وحجب بثها عن الأقمار الأوروبية منذ حوالي عشرين عاما.
فرنسا ماكرون هي اليوم جهة الوصاية والانتداب المكلفة بالاشراف على انضباط لبنان بما يسمى بالنأي بتفويض اميركي سعودي وصهيوني منذ عودة الرئيس سعد الحريري من سجنه في الرياض وبالتالي مراقبة عدم قيام لبنان بتطوير علاقاته بسورية وإيران وروسيا وضمان التصاقه المستمر بالغرب والسعودية اقتصاديا وسياسيا على الأقل.
الوهم الفرنسي يستوطن النخب الثقافية والإعلامية اللبنانية لكن الحقائق المؤلمة يصعب طمسها ولا يمكن نسيان او تجاهل محطات فرنسية كثيرة مع تعاقب الحكومات والرؤساء الفرنسيين على الانضباط الأعمى في جوقة العدوان خلف الولايات المتحدة والكيان الصهيوني كما يحصل اليوم في سورية وضد إيران بل وضد روسيا.
ثمة فرق بين الاستقلال الفعلي في المصالح والتوجهات وبين التميز المصطنع لخدمة المركز الاستعماري المهيمن والتعيش على هوامش متفق عليها مع ذلك المركز الأميركي الذي طحن حتى الآن جميع مظاهر الاستقلال الأوروبي حتى حيث تتوافر قاعدة مادية صلبة كما هي حال ألمانيا وحيث لا يصمد النموذج الفرنسي في المقارنة وهل ينسى أحدان خسائر ألمانيا من العقوبات على روسيا بلغت مئات المليارات دفعة واحدة ؟
جميع دول غرب اوروبا منضبطة في طابور تقوده الولايات المتحدة وتلتحق بها على حساب المصالح القومية للدول الأوروبية المعروضة للتضحية لقاء الرضى الأميركي حتى لو ردد السفراء والكتاب الاوروبيون أمامنا انتقاداتهم القاسية للأرعن دونالد ترامب لصرف انظارنا عن كون الرعونة والصلافة هي سمة ملازمة للحكومات الاستعمارية وليست مجرد صفة شخصية لهذا الرئيس الأميركي أو سواه من أتباع القوة الخشنة او الناعمة على السواء.