زوبعة الإنسحاب من سوريا مناورة لإبتزاز مالي أم تخبط د.منذر سليمان
قلة ضئيلة من المراقبين تفاءلت بإعلان الرئيس ترامب نيته الانسحاب من سوريا، ما لبث أن تراجع عنها ووافق على بقاء القوات الأميركية هناك إلى أجل مفتوح، لا سيما مع تواتر الأنباء بشروع القيادة العسكرية الأميركية في بناء قاعدتين عسكريتين في الشمال السوري وإرسال قوات إضافية لهناك.
وسائل الإعلام “المخضرمة” لم تنطلي عليها “ابتزازات” ترامب الإعلامية، المرة تلو الأخرى. يومية واشنطن بوست ، 6 نيسان الجاري، ذكّرت باسلوب الرئيس المبني على مبدأ “الربح والخسارة،” لابتزاز السعودية ودول الخليج النفطية “بتعويض الولايات المتحدة عن كلفة بقائها” هناك. وشارفت على توصيف القوات الأميركية بأنها “مرتزقة” تعمل لدى من يدفع مالاً.
يشار إلى أن سوريا هي “حصة” البنتاغون ووكالة الإستخبارات المركزية لتحقيق الأهداف الإستراتيجية بعيدة الأمد بتقسيمها والإطاحة بنظامها وبلقنتها – على غرار ما حل بيوغوسلافيا من تشظيها إلى دويلات متنازعة.
لا يساور الشك أحدا من اعتراض المؤسستين، العسكرية والاستخباراتية، على إعلان ترامب لخشيتها من أن يؤدي الإنسحاب الى “فراغ في سوريا” يسدي فوزاً لخصوم واشنطن. نزل الرئيس عند طلب عقد لقاء عاجل لمجلس الأمن القومي لبحث المسألة، 3 نيسان، ساده توتر كبير بين الحاضرين على خلفية التحذير من الانسحاب السريع “دون مقابل.” وما لبث ترامب، بعد انفضاض اللقاء، بأن أعلن عن بقاء القوات لاستكمال مهمة الحاق الهزيمة بتنظيم داعش.
تواردت بعض تفاصيل اللقاء العاصف مشيرة إلى “نصائح” وزير الدفاع جيمس ماتيس للرئيس بأن “القتال ضد داعش شارف على نهايته، لكن الإقدام على انسحاب كامل للقوات الأميركية في هذا الظرف ينطوي على مغامرة خسارتنا للانجازات التي حققناها ..”
أما مرشح ترامب لمنصب وزير الخارجية، مايك بومبيو، فقد شاطر ماتيس وآخرين الاعتراض على الانسحاب قائلاً “انسحاب الرئيس من البلد الذي مزقته الحرب سيعتبر خطأً.”
ما عدا ذلك من تفاصيل كان من نصيب التكهنات والقراءات المتعددة لما تحضره واشنطن؛ واوكلت المؤسسة العسكرية والأمنية مهمة احتواء الجدل إلى رئيس قيادة القوات المركزية، جوزيف فوتيل، الذي تحدث يوم 3 نيسان الجاري أمام “معهد السلام،” الملحق بوزارة الخارجية الأميركية لتبيان “الصعوبات التي لا تزال أمامنا” وينبغي التغلب عليها قبل وضع جدول زمني. وعزز منطق بقاء القوات بأن جهود إعادة الإعمار وإعادة المهجرين إلى منازلهم تنطوي على “دور عسكري.”
في هذا السياق بالذات، نشير إلى قيام الإدارة الأميركية بتجميد مبلغ 200 مليون دولار كان مخصصاً لدعم الملف السوري، بالتزامن مع توارد الأنباء الأميركية عن تدمير مدينة الرقة بنسبة 80% “.. ومهما قدم الأميركيون من دعم فلن يكفي لأن المدينة مدمرة؛” وفق تقرير الصحيفة المذكورة.
أما توقيت الرئيس ترامب لإعلانه بالانسحاب فربما كانت له دوافع انتخابية، نحو ستة أشهر تفصل عن الانتخابات النصفية المقبلة التي بدأت تلوح بشائر خسارة الحزب الجمهوري لبعض مقاعده في مجلسي الكونغرس، مما يقوض سيطرته الراهنة على السلطة التشريعية بالكامل.
البعد الآخر للإعلان له صله بالكلفة المالية التي طالب ترامب السعودية بتحمل بقاء القوات الأميركية في سوريا إذ أن “المشاركة الأميركية في سوريا مكلفة وتفيد دولاً أخرى.
كما أن للبعد الاستراتيجي الأميركي دوره المحوري في تقرير مصير القوات الأميركية، والتي لا ينبغي التغاضي عن مساعي ترامب الحثيثة لإلغاء الإتفاق النووي مع أيران، تمهيداً لتوجيه ضربة عسكرية لها ربما، وإخراج القوات الأميركية من مرمى الاستهدافات العسكرية المحلية والإقليمية. بيد أن الفرضية السابقة لا تفي بالغرض عند الأخذ بعين الاعتبار عديد القوات الأميركية وقواعدها العسكرية المنتشرة على طول ساحل الخليج المقابل لإيران؛ فضلاً عما لديها من قوات فاعلة وقواعد امداد في العراق وسوريا.
كيسنجر دائم الحضور:
بداية، ينبغي الإقرار بأن الرئيس ترامب، سواء عبر تغريداته المزاجية أو جنوحه لتصريحات مثيرة، لا يزال هو صاحب القرار الأساسي في السياسة الخارجية وتوجهاتها، بصرف النظر عمن سيشغل منصب وزير الخارجية. وسبق أن تناولنا الحضور المكثف لهنري كيسنجر على مفاصل السياسة الأميركية وإصغاء الرئيس “لنصائحه.”
بالنسبة لكيسنجر، العدو الأول هو روسيا وعودتها بقوة إلى المسرح الدولي، وينبغي محاصرتها باستخدام ورقة الصين وبث الفرقة بينهما في قراءة موازية لما فعله إبان الحرب الباردة واستغلاله الصراع الصيني – السوفياتي لمصلحة واشنطن.
ولكن لا تكتيك استمالة روسيا مؤقتا كما يرغب ترامب نجح ، ولا التلويح بحرب تجارية مع الصين يساعد في تحقيق تباعد روسي – صيني. وجاءت العقوبات الجديدة المستهدفة للنخبة السياسية والإقتصادية الروسية لتزيد من احتمالات التقارب والتنسيق الأوسع بين الصين وروسيا ، وسينعكس تشددا منهما في ملف المفاوضات الأميركية -الكورية الشمالية.
يزعم بعض العارفين في واشنطن أن دور المحافظين الجدد يتقلص داخل مفاصل القرار السياسي، دون أغفال بعض التوجهات لإعلاء شأن رموزه بين الفينة والأخرى: جون بولتون ومايك بومبيو. لكن الإستراتيجية الأميركية بعيدة المدى تسعى وراء تحقيق إنجازات طويلة الأجل أيضاً ولن تتورع عن “التضحية” بأي مسؤول يقف عقبة في طريقها.
وعليه، من غير المرجح إقدام المستشار الاستراتيجي هنري كيسنجر اسداء النصيحة للرئيس ترامب بتطبيق سياسة خارجية على نطاق العالم بالأدوات التقليدية من المحافظين الجدد، ونظرتهم الثنائية للأمور: إما معنا أو ضدنا.
وتصدر المحافظون الجدد الموقف بمعارضة قاسية للتقارب مع إيران وروسيا، عند كل مفصل من المسار الديبلوماسي ووضعوا ما استطاعوا من عراقيل لتقويض أي توجه يتعارض مع إدراكهم لمصالحهم. وما اسفرت عنه الحرب على وفي سوريا هو تحقيق أهداف معاكسة بل متناقضة مع تصورات المحافظين: فالتحالف الثلاثي بين إيران وسوريا وروسيا يتعاظم ويزداد تماسكاً؛ وعند الاضطرار تنضم الصين إلى الموقف السياسي الداعم له أيضاً.
إعلان ترامب عن نية الانسحاب جاء في هذا السياق من الصراع الكوني بالنظر إلى تصريحاته المتتالية دون تقديمه تفاصيل وافية: أعرابه عن تقبله لبقاء الرئيس الأسد في السلطة؛ إعلانه الصريح عن عدم مواجهة روسيا لقاعدتها البحرية على شواطيء المتوسط في سوريا؛ إعلانه أيضاً عن نيته الانسحاب العاجل من سوريا مما وطد علاقاته مع معسكر مؤيديه. وفي الخلفية، بين ترامب بالتوافق مع كيسنجر أو بايعاز منه، فإن الهدف البعيد من وراء ذلك هو محاصرة إيران وتقليص ظروف أعتماد سوريا عليها إلى الحد الذي لن يعود لها مبرر للتحالف معها. فمحاصرة إيران، في المدى المنظور، تلبي متطلبات القوى السياسية الأميركية وتساعدها في مزيد من ابتزاز دول الخليج النفطية لأطول فترة زمنية ممكنة.
ماذا عن القلق “الاسرائيلي” من إعلان ترامب، سواء تحقق اليوم أو غدا؟ اللوبي “الاسرائيلي” في واشنطن بكافة تشعباته أوضح أن عدم رسو القرار الأميركي “يزعج إسرائيل؛ وهي في حالة من الإرباك.” السفير الأميركي الأسبق لدى تل أبيب، دانيال شابيرو، أوضح أن تصريحات الرئيس ترامب “تثير حالة من الفوضى” في تل ابيب؛ مما يفسر استحضارها “التواجد الإيراني” في الجولان كذريعة لابتزاز واشنطن للإبقاء على تواجدها في سوريا. فضلاً عن تقييد حركتها العسكرية في الأجواء السورية عقب الاشتباكات الأخيرة التي أسفرت عن أسقاط الدفاعات السورية لواحدة من أحدث الطائرات في الترسانة الحربية “الإسرائيلية،” الإف-16.
كما أن الوجود العسكري الأميركي في بعض المناطق من سوريا وفر غطاء وعنصراً داعماً للغارات “الإسرائيلية” داخل الأراضي السورية؛ وغيابه أو تقليص حجمه سيعيق خططها ومهامها لتقويض الدولة السورية.
جدير بالذكر أن إعلانات ترامب المتكررة حول سوريا اسفرت عن تهميش “الحلفاء الأوروبيين” وبمعزل عن التشاور معهم و”تقاتل” قواتها في سوريا دون “الاستفادة” من عطايا السعودية وحصر المكاسب المالية في الجيش الأميركي. حين تجسيد أعلان ترامب في أي وقت مقبل، فإنه سيترك حلفاءه الاوروبيين ليواجهوا مصيرهم وحدهم في سوريا، كما يستنتج من تصريحاته المذكورة. الأمر الذي سيعمق مأزق القادة الأوروبيين أمام جمهورهم الواعي نسبيا والمعارض للنزوات العسكرية الأميركية وإلحاق بلادهم بها.