حروب ثم مزيد منها حوار مع السفير السابق روبرت فرود مايكل يونغ
مركز كارينغي
يصف السفير الأميركي السابق روبرت فورد، في مقابلة معه، بواعث القلق الذي يساوره حيال سورية، قائلاً إنها ربما تكون أضخم مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية.
23 شباط/فبراير 2018
روبرت فورد آخر سفير أميركي لدى سورية بين عامَي 2010 و2014. كان سابقاً سفير بلاده لدى الجزائر، بعد أن شغل مناصب عدة في منطقة الشرق الوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك مصر وتركيا والبحرين وبغداد. هو الآن باحث أول في معهد الشرق الأوسط في واشنطن العاصمة ومحاضر في معهد جاكسون للشؤون الدولية في جامعة ييل. أثار فورد سخط النظام السوري أثناء تواجده في سورية في تموز/يوليو 2011، حين قام بزيارته الشهيرة إلى مدينة حماة، في وقتٍ كان الجيش السوري يطوّق المدينة التي كانت تشهد احتجاجات ضد نظام الأسد. غادر فورد سورية في شباط/فبراير 2012 إثر إغلاق سفارة الولايات المتحدة لأسباب أمنية، لكنه بقي في وزارة الخارجية حتى العام 2014، حين استقال من منصبه قائلاً إنه لم يعد قادراً على الدفاع عن سياسات الولايات المتحدة في سورية. أجرت “ديوان” مقابلة معه في منتصف شباط/فبراير للاطّلاع على موقفه حيال الوضع السوري الذي يزداد تعقيداً وخطراً على نحو مطّرد، والانخراط الأميركي المتنامي في البلاد.
مايكل يونغ: الوضع في سورية يتبدّل، فيما يتزايد خطر نشوب نزاع بين الدول الإقليمية والدولية المنخرطة في الحرب. ما الذي يقضّ مضجعكم حيال هذا الوضع؟
روبرت فورد: يُقلقني سيناريوان اثنان على وجه الخصوص. أولاً، ثمة خطر، بل احتمال، أن تُجري الحكومة السورية وحلفاؤها المزيد من التدخّلات، من ضمنها عمليات ينفّذها “المتعاقدون العسكريون” الروس ضدّ قوات سورية الديمقراطية المدعومة أميركياً في جنوب شرق سورية. لم نعرف بعد كامل حيثيات ما جرى في 7 و8 شباط/فبراير في محافظة دير الزور، لكن مانعرفه هو أن غارات الطائرات الحربية الأميركية أسفرت عن مقتل بعض المواطنين الروس الذين يخوضون القتال إلى جانب قوات موالية للحكومة السورية. لنفكّر في الأمر لبرهة. متى كانت آخر مرة شنّت فيها الولايات المتحدة هجوماً أسفر عن مصرع عدد لايُستهان به من المواطنين الروس؟ يبدو أن موسكو لم تردّ بقوّة على هذه الحادثة تحديداً، لكن طالما أن وسائل الإعلام الروسية تسلّط الضوء على الضحايا الروس، لا أعتقد أن الموقف الرسمي الروسي سيلتزم مجدّداً ضبط النفس في حال حدوث اشتباك آخر مماثل. فجذوة التوتر المتأجّجة أصلاً في العلاقة الثنائية الروسية-الأميركية تفاقم خطر التصعيد في المرة المقبلة.
لستُ أقول إن حرباً نووية ستندلع بين موسكو وواشنطن حول سورية، لكن من غير المُستبعد أن يتم الدفع باتّجاه تصعيد وتائر القتال على نحو حادّ، وأن يلجأ الروس إلى أسلحة أكثر تطوراً. أشكّ في أننا نفهم الآلية التي يتّبعها الروس في بلورة واتّخاذ القرارات المتعلّقة بردود فعلهم السياسية في سورية.
أما السيناريو الثاني الذي يثير قلقي فهو افتقار الولايات المتحدة إلى استراتيجية خروج واضحة المعالم في سورية. كان بإمكاننا إعلان النصر [ضد الدولة الإسلامية] في نهاية العام 2017 والانسحاب من ذلك البلد. هكذا قرار ليس مثالياً، إلا أننا لو تعاونّا على نحو أوثق مع تركيا في إغلاق حدودها مع سورية بوجه المتطرّفين الذين يدخلون البلاد، مقابل وقف الدعم الأميركي لميليشيا وحدات حماية الشعب، لاستطعنا أيضاً الحدّ من المخاطر المُحدقة بالمصالح الأميركية والأوروبية. لكننا شهدنا عوضاً عن ذلك تدهور العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة، والإبقاء على وجود ما لايقل عن 1,000-2,000 أميركي، بين جنود ومدنيين، عاملين في سورية إلى أجل غير مسمّى. ومما لاشك فيه أنهم سيقعون، عاجلاً أم آجلاً، ضحايا هجمات غير تقليدية.
ليس صعباً تخيّل أن تغذّي شعبة الاستخبارات العسكرية السورية مجدّداً هجمات الإسلاميين المتطرّفين ضد القوات الأميركية على الأراضي السورية. كذلك يمكننا تخيّل أن تنحو قوات الحشد الشعبي المدعومة إيرانياً والمتمركزة في محافظتَي نينوى والأنبار في العراق المنحى نفسه. صحيحٌ أن الولايات المتحدة تتّخذ إجراءات جيّدة لحماية قوّاتها، لكن الطرف الآخر يراقب ويختبر ويتعلّم أيضاً.
يونغ: أعلنت الولايات المتحدة مؤخراً أنها تعتزم البقاء في سورية للحؤول دون إنشاء محور موالٍ لإيران من إيران إلى لبنان. كما أنها تتعرّض إلى ضغوط من تركيا للانسحاب من منبج. وكما ذكرتم سابقاً، خاضت القوات الأميركية وحلفاؤها الأكراد معركة ضد القوات الموالية للنظام في سورية. هل ستتمكّن القوات الأميركية من البقاء والاستمرار في بيئة تكتنفها التحديات من كل حدب وصوب؟
فورد: أشكّ في إمكانية أن تشنّ تركيا هجوماً مباشراً على القوات الأميركية. لكن الوضع الأميركي في شرق سورية محفوف بالصعاب. فعلى سبيل المثال، يسعني بيُسرٍ تخيّل حدوث تعاون بين تركيا وسورية لتقويض ميليشيا وحدات حماية الشعب التي تحظى بدعم الولايات المتحدة.
إضافةً إلى ذلك، بات دخول القوات الأميركية إلى المناطق الكردية السورية ومواقع في دير الزور من كردستان العراق عبر معبر فيشخابور الواقع على نهر دجلة، تحت مجهر مراقبة القوات العراقية الخاضعة ربما إلى نفوذ إيران. يسهل تخيّل الطرق التي يمكن أن تمارس من خلالها سورية وإيران ضغوطاً متنامية على الموقف الأميركي، ناهيك عن أن تصعيد وتيرة الغارات الجوية الأميركية لن يحلّ مشكلة الدخول إلى الأراضي السورية.
يونغ: يبدو أن رغبة روسيا للدفع من أجل التوصل إلى حل سياسي، مع انعقاد المؤتمر في سوتشي مؤخراً، آخذة في التراجع. هل تعتقدون أنه بإمكان موسكو فرض القرار الذي تنشده؟
فورد: حاججتُ طويلاً بأن روسيا لاتستطيع فرض إرادتها على دمشق. هل تستطيع فرض نفوذها؟ نعم بالتأكيد. لكن هل بإمكانها فرض شروط تجدها حكومة الأسد مؤذية؟ لا، انظر كيف حرّفت الحكومة السورية قرار اجتماع سوتشي هو تشكيل لجنة لكتابة دستور جديد. كما أن دعم إيران الثابت، حتى وإن لم يكن من دون ثمن، يجعل من الأسهل على الرئيس السوري بشار الأسد مقاومة الضغوط الروسية. من المهم أيضاً أن نتذكّر أن روسيا لاتريد زعزعة استقرار حكومة سورية صارمة، لكن هشّة أيضاً في بعض الأحيان. ويُعتبر نقص العنصر البشري المتوافر للحكومة السورية، الذي لطالما توقّعه الأميركيون، مؤذياً للغاية لدمشق راهناً. لكن الأمر الذي غاب عن بالنا هو أن إيران مستعدة للقيام بما في وسعها لتعويض النقص في العنصر البشري. وقد أدّى هذا السلوك الإيراني إلى تراجع النفوذ الروسي وتهميش السياسة الأميركية تماماً بين 2011 و2016.
يونغ: هل من اختلافات حقيقية بين روسيا وإيران ونظام الأسد، كما أفاد الكثيرون، أم أنهم جميعاً متفقون بشأن سورية؟
فورد: تتفق روسيا وإيران وسورية أكثر مما تختلف. تتفق على أنه لاينبغي للدول الأجنبية أن تدعم الثورات الشعبية ضد الحكومات القائمة، وعلى أن القانون الدولي يبرّر بشكل حازم طلب الحكومة السورية ذات السيادة الحصول على مساعدة عسكرية من دولة أجنبية، في حين يفتقد طلب المعارضة الحصول على دعم أجنبي إلى أي شرعية دولية. كما تتفق على أن الهدف النهائي المتمثّل في الحفاظ على تلك الحكومات – سواء في دمشق أو طهران أو حتى موسكو – يبرّر الوسائل التي يجب استخدامها، مهما كانت. فلا يهمّ إذا ما كانت أسلحة كيميائية أو تفجير مستشفيات أو استخدام التجويع كتكتيك عسكري. قد يجد الروس والإيرانيون بعض هذه التكتيكات “مقيتة”، لكنهم يقبلونها طوعاً. وتسعى الدول الثلاث مجتمعةً إلى الحدّ من النفوذ والوجود الأميركي في العراق وسورية.
هل تتشاطر الدول الثلاث الرؤية نفسها لما يجب أن تبدو عليه الدولة السورية ومؤسساتها الأمنية بعد انتهاء النزاع – إذا انتهى؟ بالتأكيد لا، لكن روسيا، كما الأسد، يمكنها التأقلم مع الرؤية الإيرانية. ومن المهم أيضاً أن نتذكّر أن علاقة روسيا واسعة النطاق مع إيران تمتدّ من سورية لتشمل قضايا أخرى، بدءاً من القوقاز مروراً بآسيا الوسطى وصولاً إلى بحر قزوين. لا بل سورية قد لا تكون القضية الأهم التي تتمحور حولها العلاقات بين موسكو وطهران. كم من الأميركيين باعتقادك يدركون ذلك؟
يونغ: كيف تتوقّعون أن تروا الوضع في سورية خلال السنوات المقبلة؟
فورد: أملي ضئيل بأن الوضع في سورية سيكون مستقراً تماماً وسيعمّ السلام البلاد. يمكنني أن أتحدث عن إسرائيل وإيران، لكن هناك ما هو أكثر بكثير حول هذا النزاع الحاد في الأراضي السورية.
يمكننا أن نتوقع تزايد أعمال القتال في إدلب والغوطة الشرقية بين الحكومة السورية وحلفائها من جهة والمعارضة المسلحة من جهة أخرى. إن موقفي من سلوك حكومة الأسد والفساد المستشري والفظائع التي تقوم بها معروف جيداً، لكن لا بد لي من التساؤل حول فائدة خوض قتال محكوم عليه بالفشل للدفاع عن الغوطة الشرقية. لن تتدخل أي دولة أجنبية بالنيابة عن المعارضة هناك، مع العلم بأن أعداد الضحايا من المدنيين مروّعة أساساً ولا تنفكّ تزداد يومياً. أعتقد أن الاستسلام وحده يمكن أن ينقذ حياة بعض المدنيين على الأقل.
فرضت الحكومة السورية وحلفاؤها سيطرتها إلى حدّ كبير في غرب سورية، لكن ما لم تعقد القوات السورية “التي تسمي نفسها ديمقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة اتفاقات مع الحكومة السورية، يمكننا أن نتوقّع تواصل أعمال القتال بوتائر متدنية في شرق سورية لسنوات مقبلة. وبالنظر إلى رغبة الجمهور الأميركي القوية في عدم الغوص عميقاً في المستنقع السوري، أشكّ في القدرة الأميركية على البقاء على المدى الطويل، إذا ما تكبّدت الولايات المتحدة خسائر بشرية. لكن هذا الانسحاب، سيترك القوات المحلية في شرق سورية وحدها في مواجهة الحكومة السورية وحلفائها.
بالإضافة إلى ذلك، لن يتوقف التمرّد المناهض للحكومة السورية، وكذا الأمر بالنسبة إلى الهجمات الإرهابية التي تُشنّ بين الحين والآخر، كتلك التي شهدناها في دمشق وحمص. وفوق كل ذلك، قد يكون هناك عدد قليل من الاستثمارات الصينية والهندية والروسية والإيرانية في غرب سورية، وستتأخر عملية إعادة الإعمار واسعة النطاق. أما بالنسبة إلى معظم اللاجئين السوريين والنازحين داخلياً، فأنا لا أدري حقاً كيف يمكنهم في ظل هذا السيناريو العودة إلى ديارهم. لا أقول إن أزمة اللاجئين ستزداد سوءاً من حيث الأرقام، لكن الإرهاق بدأ يصيب الجهات المانحة. وعليه يُرجّح أن تطول معاناة السوريين داخل البلاد، وكذلك اللاجئين خارج البلاد لسنوات. ربما تكون سورية أكبر مأساة إنسانية شهدناها منذ الحرب العالمية الثانية.
http://carnegie-mec.org/diwan/75627?lang=ar