ديمقراطية المساواة بين نسمة ونسمة في لبنان الدكتور نسيم الخوري
أعني كوارث المساواة بين نسمة ونسمة في لبنان عندما يتدحرج الحكم فيه ليصبح النائب نائبة بمعنى مصيبة ويصبح الوزير وزراً بمعنى عبئاً ثقيلاً:
1- لم يعد النظام الديمقراطي مثالياً في لبنان. أـفق مع إفلاطون بإعتباره نظاماً من بين النظم السيئة في إنتقاء الحكام. يقوم على خطأين: المساواة بين الناخبين، بين أجهل الناس وأعقلهم في التمييز والتفكير والعقل وممارسة حق التمثيل والإنتخاب والحكم. إنّ مساواة المواطنين المذهبيين الغرائزيين مع العقلاء والنزهاء هي نوع من تقديس البلاهة أو الجهالة أو الطائفية والمذهبية. تصبح الأكثرية الجارفة أو المجروفة وكأنها على حقّ دائم، ومتحكمة بقوة بواقع الوطن ومستقبله، مع أنّ الحق يدركه أذكياء الأمم وعلماؤها ومفكروها، وهم أقليّة بل قلّة تنزاح فلا تشارك وتتفرّج على نكبة إزالة الفروقات بين نسمة ونسمة أي بين مواطن وآخر عند تعبئة البقرلمانات والوزارت كيفما كان.
لا تجمع العقول في كيس واحد، وإن جمعت النظم الديمقراطية مواطنيها بكذا صوت أو كذا نسمة. ليس صحيحاً أن الأصوات والنسمات تتساوى في التغيير والتطور والتقدم والإختيار والتفكير والغرائز.
قد يكون فرد على حق، وأمّته كلّها على خطأ، بل البشرية كلّها على خطأ.
2- ليس النظام الديمقراطي واحداً في العالم. يكاد يكون لكلّ بلد ديمقراطي نظامه الخاص المناسب. من الفوارق البارزة إعتماد العدد أساساً في الأمم المتجانسة، وتجاوزه في الأمم التعددية والمتنوعة كلبنان. وأكتفي بمثال واحد، مثل الولايات المتحدة الأميركية: عدد هذه الولايات خمسون، لكلّ ولاية شيخان، أيّاً يكن حجمها حيث تتساوى الولايات الكبرى مع الصغرى بحيث لا يمرّ قانون في مجلس الشيوخ إلاّ بموافقة الأكثرية، ولا تطالب الولايات الكبرى بالتعديل أو الأخذ بالإعتبار لحجمها السكاني.
لماذا هاتان الملاحظتان؟
لأنّ معظم اللوائح والمرشحين والناخبين والكلام أو النصوص المتدفّقة في الإنتخابات البرلمانية اللبنانية (6 أيار/مايو المقبل2018) تدفعك إلى أسئلة:
أيّة ديمقراطية هي تلك التي نشهدها في الساحات والشاشات؟ أيّة ديمقراطية هي تلك التي درج ّ اللبنانيون على الإعتداد بها أو التشاوف والتمايز بها على غيرهم بكونهم السبّاقون إليها؟ كيف نعرّفها وأين نرفعها؟
الجواب:
هي ديمقراطية قد لا تضاهي ولا تتجاوز في قيمتها “شرف” التلفّظ بها ترشحاً وإقتراعاً وتمثيلاً. ليست الديمقراطية تنافس مقتدرين في ساحة كما تنافس البائعين للخضار والفواكه في سوقٍ من خضار. نراها ديمقراطية في لبنان وكأنها مصطلح مستورد منهك ومشوّه مفرغ من مضامينه ومفاعيله التاريخية بحكم الفوضى في تجاوز الحدود حتّى الضيقة للقيم والآداب وإحترام الآخر ومعنى البرلمان.
إنّ متابعة 917 مرشّحاً على 77 لائحة مع مناصريهم ومتابعة المغالاة الهائلة في توصيف الإنقسامات الطائفية والمذهبية بالأصوات العالية والنصوص الحافلة بالنكايات والمنقادة للغرائز والصور البذيئة الصحيحة أو المفبركة وقد تجاوزت أبسط حقوق السامعين والمشاهدين فوق صفحات التواصل الإجتماعي خصوصاً، يجعلك حيال صورة سوداء تسلب المعاني الحضارية أو الثقافية لفهم الديمقراطية أوممارستها. إنّ أقلّ ما يمكن نقله من صورة عامة موضوعية حيال مناخ حافل بالتحقير والشتيمة والتبخيس ونتف الفروة وسياق الإتهامات الخطيرة المتبادلة هو تأكيد ما اعتدنا سماعه من رئيس الحكومة الصديق الخلوق الدكتور سليم الحص في “منبر الوحدة الوطنية” من أنّ في لبنان الكثير الكثير من الحرية والقليل القليل من الديمقراطية.
نعم الحريّة في لبنان عارية لا تشدّها إلى الخلف لا أل التعريف ولا تضبطها أل التفخيم. هي الحريّة المستباحة في الساحة. من يتذكّر الساحة أو يتخيّلها يدرك أن لا تصوينة تقيها الفضوليين ولا أبواب لها محددة ليدخل المارة أو يخرجون. إنّه المكان المفتوح على العالم! لنخرج من هذا الجلد المقتضب والمتاهة المألوفة في تناول النصوص لمصطلحات أو مفاهيم كبرى مثل الديمقراطية ، نورد هذا النص لأب الفلسفة اليونانية سقراط الذي يحكم الربط بين الديمقراطية وفن الكلام والقاصد حفره وتنزيله كبحاً لحماس الكثير من اللبنانيين الذي لن يضيف حبة خردل إلى مسيرة التغيير ومستقبل لبنان:
” لقد أمسكت مدينتنا بزمام شرف فنون الكلام، هذا الفن الذي يرغب الجميع في امتلاكه في الوقت الذي يحسدون فيه أولئك القادرين على قوله وممارسته… أولئك الذين تربوا منذ ولادتهم الأولى متمرسين بالديمقراطية لا بالشجاعة ولا بالثراء أو بالأعمال الخيّرة التي نعرفها ونألفها، وإنّما بالكلام الوحيد الديمقراطي في القول والممارسة الذي يرفع منزلتهم لدينا. الكلام هو حجر الزاوية الأكيد في فهم الديمقراطية وكشف تربية كلّ منا، والذين يتفننون فيه هم أصحاب سلطة واقتدار ليس في مدنهم وحسب وإنّما لدى الرجال كلّهم حيث هم أصحاب شرف وحظوة وسلطان..”.
يدفعنا هذا النص لسقراط للقبض على الأهمية التي يتّخذها الكلام كأداة للحوار والمنطق وتهذيب سمع الأجيال الطرية ونفوسها وتربية ثقافاتها بهدف صناعة الوعي في ممارسة الديمقراطية التي هي تربية وفن ورقي، وكلّها قضايا كانت في أساس الفلسفة التي سبقت السياسة والأديان والطوائف بقرون. وليدرك المرتجلون في الأنشطة الخطابية والكتابية الذين تتقدّمهم غرائزهم بلا ضوابط بأنّ السياسة أصبحت بهذا المعنى عيباً في بلد مثل بلدنا لبنان يفترض أن يتذكّر جوهرة اسبارطة معايناً البذرة الأولى للديمقراطية في العالم ومتعلّماً منها صناعة المستقبل. وإذا كانت السياسة قد اتخذت ولاداتها من إدارة الشؤون المدنية، فإنها في مجملها جاءت مطبوعة بمركزية صارمة للسلطات اتخذت تسميات متعددة باللغة اليونانية القديمة وهي ما زالت مستمرة ومستعملة في اللغات اللاتينية وآخرها الإستعمال الأميركي والأوروبي الذي يجوب القارات الأربع حتّى عن طريق العولمة. تلك هي المفارقة الكبرى بين الديمقراطية التاريخية والديمقراطيات الجديدة، ولربّما بين بيروت وأثينا وبين البؤس في إعتبار كلّ مواطن نسمة تتساوى مع النسمة الأخرى في الترشح والإقتراع حتّى ولو كان بينهما ألف سنة ضوئية من الفهم في التقدير.
أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه،لبنان