إستراتجية وقاية المجتمعات د.نسيم الخوري
يقع نصّي في مثلّثٍ متساوي الأضلاع ظاهرياً يوحي بالتناغم المسكون بالحريّة عنوان لبنان لكنّها الحرية التي تقوّض الكثير من مقومات الأوطان. قد يغصّ النصّ في الإفصاح الكامل أحياناً عندما ترتجف الحريّة في زواياه توقاً للمسؤولية ومناداة الحفاظ على الهوية والإستقرار، أو عندما تتكاثر زوايا وجهات النظر الوطنية فتفقد شيئاً من توازنها لتعيش الأوطان عبر الصحافة والشاشات المستوردة البرامج ضمورها القاسي وتشابكاتها الوطنية المؤلمة. عندها تطفو مساحات الإختلاف على المستقبل بين ما هو مخبوء ومستبطن أو ما هو مقال ومعلن ومبثوث ومسلٍّ ولاهٍ للجماهير لكنّه يضرب الأسس، بما يحدّ من تراكم الإشعاع التاريخي والإبداعي في الزوايا المبثوثة في أرجاء الوطن. من يستيقظ على إستراتيجيات الإعلام ويفكّكها حيث لكلّ تغيير إعلامه الخاص الإستراتيجي المدروس.
1- عندما توقف شاشة ال M.B.C جميع المسلسلات التركيّة من على شاشاتها نفهم سريعاً ردود فعل أو موجات الإنتقاد السريعة للعيون والقراءات الأفقية على مواقع التواصل الإجتماعي التي إستغرقت في ظاهر تلك المسلسلات لا في جذورها وأعماقها ومراميها. قد يكون كسر العادات للعيون والأذهان المسترخية صعباً إذ تنزاح تركيا لمصلحة الأعمال الدرامية البرازيلية أو غيرها لتعبئة الفراغات المؤقّتة. لن نسرد أجيال المسلسلات الجميلة للعين والبصر لكنها خطيرة للبصيرة والمصائر. هناك إستراتيجيات مقننة وأكثر من مدروسة عند إتخاذ قرار التغيير. والتغيير يصبح خطراً إن لم ينتبه لما يضمره الغير. لطالما كانت تركيا قبل حلول “الربيع العربي” إحدى الدول المتقدّمة واللاعبة في دس بذور الأفكار والمخاطر والمشاهد الغريبة التي تحفل بها الشاشات والمسلسلات. صحيح أنّها كانت تصل إلى حدود المليار دولار تسقط في جيب أردوغان الممثل الوحيد لتركيا وهي ستبلغ المليارين بعد 5 سنوات، لكنها كانت تحمل في طياتها ملايين الأفكار التي تروّج لتقويض البيت العربي عبر تلك القوة الناعمة الجذّابة. كانت وما زالت تركيا منصّة مسكونة بالعثمانية في السياسة كما في المشاهد والشاشات تمتهن إجراءات قد لا تصب بالضرورة في مصلحة العرب ووحدتهم وإستقرارهم. ولو تذكّرنا أن منظومة الإتحاد السوفياتي قد سقطت عبر شاشة التلفزيون قبل سقوطها السياسي والإجتماعي، لأمكننا ضرورة الإنتباه الكامل للشاشات التي تسبق السياسات وتنافسها وتقوضها وتدمّر عبرها المجتمعات. قد يسأل أحدهم: ما العمل: تراجع في أعداد المشاهدين ومردود الإعلانات؟ ربّما، لكنّ الأوطان لا يمكن إقتناء إستقرارها بالقصف والعصف عبر الشاشات. أليس في هذا دعوة واضحة للمبدعين والمنتجين في مصر ولبنان وبلدان الخليج للعمل الدؤوب وإنتاج المزيد من المسلسلات والبرامج الدرامية النوعية في بلادٍ لا تغريها الشاشات التي تتعامل مع مواطنيها بصفتها ساحات. كيف؟
2- قبل نصف قرن، شغلت عضو مجلس إدارة تلفزيون لبنان ومدير منتدب لشؤون البرمجة والإنتاج.، وقد عرض عليّ بث مئات الساعات والبرامج المجّانية مقابل شراء برنامج” سفينة نوح” ورفضت العرض كلّه بسبب الأفكار والمشاهد الملغومة التي تتجاوز ما صار يستعمل الآن في القول ب” مصطلح التطبيع. يكمن الحفّاز الأكبر الذي زاد من إنشغالي بالصحافة هو الحفر لتعميق التوضيح بين الصحافة اللبنانية والصحافة في لبنان. هناك فرق كبير! الصحافة اللبنانية بين 1851- 1943 كانت مقالع عروبة تضجّ بالحرية والأحرار ومناهضة الأتراك والفرنسيين وكلّ من تهادى غازياً فوق شواطيء العرب لكن الصحافة في لبنان من 1943 حتى الأمس القريب وحلول عصر الشاشات والساحات، كادت بمعظمها تساهم في قتل لبنان ونسف إستقلاله وحريته محو دوره عن خريطة التاريخ الجميل الذي ما زال يعلق بوجه العرب ووجدانهم وألسنتهم وتطلّعاتهم. يجرّ حرف الجر هذا بين الصحافتين المذكورتين خلفه تاريخاً مرّاً ودموياً من الصحافات الكثيرة المستوردة التي إتّخذت من لبنان منصة لصراعاتها وإنقساماتنا. كان وربّما ما زال هناك إمكانيات دولية وعربية ساعدتنا في التذكير أوالربط المسؤول بين وقف الحملات الإعلامية ووقف إطلاق النار في تاريخنا القريب.
3- صحيح أنّ لبنان هو مثال أو “ميديا ستيت” كما أسميته في مؤلفاتي ومحاضراتي ، لكنّ الأصح أننا إنتقلنا من الصحافة الى الإعلام الذي يظهر أدوات خطرة مباحة ومستباحة في ما يسمونه الساحة تدليلاً على الوطن. للساحات أعباؤها في التاريخ. نحن اليوم ساحات أو جزرٍ صغيرة محلية تكاد تبدو شبه مقفلة. لكلّ ساحة مذهبها وأحزابها وزعماؤها متّفقين كانوا أم متباعدين ولكلّ نشيده وعلمه ولونه وجمهوره وأسلحته الظاهرة والمخبأة وله مشفاه ومدرسته وجامعته وله ما هو أهمّ من ذلك جمعياته وعدته الصحافية والإعلامية وشاشاته وإذاعاته ومواقعه التواصلية وفي مقابل هذا كلّه يتوزع محازبوه من كافة المناطق على إدارات الدولة ويتحكم بمفاصلها في حمّى من الصراعات والتجاذبات اليومية الطائفية والمذهبية، وهؤلاء يؤلّفون اليوم 40 بالمئة من لبنان العتيق الذي يقبل على الإنتخابات البرلمانية وكأنّه يعيش المرحلة الإنتقالية الأخيرة في تاريخ لبنان التي ستأخذك إلى الحرب أو الى الحرية بمعنى التغيير. يظهر هذا في إعلام يستدعي ركام الحروب مفرغ المضامين يعبق بالإرتجالية وردود الأفعال المقلقة إلى حصار مالي يحاصر ما بقي من اللبنانيين في الداخل والخارج.
بعيداً من السياسات وبعد كلّ هذه الخرائب أمامنا، ألا تستحق المجتمعات العربية الركون إلى تدوال الخبرات النظيفة بحثاً عن إستراتيجيات الوقاية والصيانة الإعلامية بما يصبّ في إعادة صناعة الوعي العربي وتأمين التغييرالمدروس والإستقرار؟