تقارير ووثائق

تحذيرات خبراء صندوق النقد الدولي حول لبنان في منتصف شباط

 

12 فبراير 2018

يصف البيان الختامي الاستنتاجات المبدئية التي يخلص لها خبراء الصندوق في ختام زيارة (أو “بعثة”) رسمية تتم في الغالب إلى بلد عضو. وتوفَد البعثات كجزء من المشاورات المنتظمة (السنوية في العادة) بمقتضى المادة الرابعة* من اتفاقية تأسيس الصندوق، أو في سياق طلب من البلد العضو باستخدام موارد الصندوق (الاقتراض منه)، أو كجزء من المناقشات بشأن البرامج التي يتابعها خبراء الصندوق، أو في إطار ما يجريه الخبراء من عمليات متابعة أخرى للتطورات الاقتصادية.

وقد وافقت السلطات الوطنية على نشر هذا البيان. وتعبر الآراء الواردة فيه عن وجهات نظر خبراء الصندوق ولا تمثل بالضرورة آراء مجلسه التنفيذي. وبناء على الاستنتاجات المبدئية التي خلصت إليها البعثة، سيقوم خبراء الصندوق بإعداد تقرير يقدم إلى المجلس التنفيذي، بعد موافقة الإدارة العليا، للمناقشة واتخاذ القرار.

تمثل الانتخابات الوشيكة فرصة لإشراك الجمهور العام في حوار حول كيفية دعم الاستقرار الاقتصادي الكلي وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية لتعزيز النمو الاحتوائي وخلق الوظائف. وبالإضافة إلى ذلك، يمثل مؤتمر باريس القادم فرصة لحشد الدعم الدولي لهذه الجهود. وقد حققت السلطات اللبنانية إنجازات كبيرة في الشهور القليلة الماضية، ومن أبرزها إقرار أول موازنة عامة منذ أكثر من 12 عاما في أكتوبر/تشرين الأول 2017. غير أن الوضع الاقتصادي لا يزال هشا بوجه عام، مع استمرار النمو المنخفض لفترة طويلة، وسرعة تراكم الدين العام متجاوزاً 150% من إجمالي الناتج المحلي، وعجز الحساب الجاري المزمن الذي يزيد على 20% من إجمالي الناتج المحلي . وللحفاظ على الثقة في النظام، هناك حاجة ماسة لإرساء إطار للسياسات يدعم الاستقرار الاقتصادي الكلي. ويُلقي هذا البيان الضوء على أهم النتائج والتوصيات التي خرجت بها بعثة مشاورات المادة الرابعة الأخيرة إلى لبنان((12-1 فبراير/شباط 2018)، استنادا إلى مناقشاتنا مع مجموعة واسعة من الأطراف المعنية. وهناك تحليل أشمل لقضايا السياسات سيتضمنه تقرير خبراء الصندوق وشيك الصدور. ونتوجه بالشكر إلى السلطات اللبنانية والأطراف المناظرة الأخرى على كرم ضيافتهم وعلى المناقشات الثرية والمثمرة التي عقدناها معهم.

أهم الرسائل

ينبغي أن يركز جدول أعمال الإصلاح على المجالات الثلاثة التالية:

أولا، ينبغي اعتماد خطة فورية للضبط المالي تشكل ركيزة لسياسة المالية العامة ويتم من خلالها تثبيت الدين كنسبة من إجمالي الناتج المحلي ثم وضعه على مسار تنازلي واضح. وأي زيادة في الاستثمارات العامة يتعين أن تستند إلى خطة الضبط المذكورة وأن يسبقها العمل على تعزيز إطار إدارة الاستثمار العام.

ثانيا، ينبغي احتواء المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي، بما في ذلك تحفيز البنوك على تعزيز هوامش الأمان بالتدريج واتخاذ مزيد من الإجراءات الرامية إلى تحسين جودة الائتمان.

ثالثا، لتشجيع النمو المستدام وتحقيق درجة أكبر من العدالة والتنافسية، ينبغي إصلاح قطاع الكهرباء مع تعزيز وتفعيل الإطار التنظيمي لمكافحة الفساد.

السياق

خرج لبنان من الأزمة السياسية التي مر بها في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، لكن أوجه الضعف زادت. فأسعار الفائدة على الودائع المصرفية بالعملة المحلية الجديدة ارتفعت عما قبل الأزمة بنسبة تتراوح بين نقطتين وثلاث نقاط مئوية، كما أصبح النظام الاقتصادي أكثر اعتمادا على ثقة المودعين.

وتخطط السلطات لإطلاق برنامج كبير للاستثمار الرأسمالي (CIP) . فلا يزال لبنان يستضيف حوالي مليون لاجئ سوري مسجل (ما يعادل نحو ربع السكان). ويهدف البرنامج لزيادة النمو في لبنان مع تخفيف العبء عن كل من المجتمعات المضيفة واللاجئين. وقد أشارت السلطات إلى اعتزامها تدبير مبلغ يصل إلى 16 مليار دولار أمريكي (32% من إجمالي الناتج المحلي الحالي) على مدار العقد القادم مستعينة في ذلك بآلية التمويل الميسر لدى البنك الدولي، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، وغير ذلك من التسهيلات التي تقدم منحا أو قروضا ميسرة طويلة الأجل. ومن المقرر مبدئياً أن يتم في إبريل/نيسان 2018 عقد مؤتمر في باريس لدعم الاستثمار في لبنان.

ولم يطرأ تغير على الوضع الاقتصادي الأساسي الذي لا يزال محفوفا بالتحديات، مع ارتفاع الدين العام، وعجز الحساب الجاري، ومتطلبات التمويل. ومن المقدر أن يكون الدين العام قد بلغ أكثر من 150% من إجمالي الناتج المحلي في نهاية 2017، ومن المتوقع أن يرتفع بسرعة مع عجز الموازنة الذي يتجاوز 10% في الفترة الزمنية التي يغطيها التنبؤ . ومن المتوقع أيضا أن يظل عجز الحساب الجاري عند مستوى أعلى من 20% . وقد تأثرت ظروف التمويل بالأزمة السياسية التي وقعت في نوفمبر/تشرين الثاني 2017. وما لم يتحقق خفض كبير في الاحتياجات التمويلية للاقتصاد أو تزداد تدفقات الودائع الداخلة إليه (وفي ضوء الآفاق المتوقعة لأسعار الفائدة العالمية)، فسوف يحتاج مصرف لبنان إلى رفع أسعار الفائدة أو استخدام احتياطياته الإجمالية الكبيرة لتلبية احتياجات الاقتصاد من التمويل. ويمكن أن تكون ميزانية 2018 والتحضير لمؤتمر باريس القادم نقطتي انطلاق أساسيتين للشروع في الإصلاحات الاقتصادية الضرورية.

الخلفية الاقتصادية

ولا يزال النمو منخفضا، حيث تشير تقديراتنا إلى تحقيق نمو يتراوح بين 1-1.5% تقريبا في عامي 2017 و 2018. ولا تزال قاطرات النمو التقليدية في لبنان – وهي السياحة والعقارات والبناء – تتسم ببطء الحركة، ومن غير المرجح أن تحقق تعافيا قويا في وقت قريب. فطبقا لمصرف لبنان، انخفضت أسعار العقارات بأكثر من 10% في 2017، بينما يشير مؤشر مديري المشتريات إلى استمرار تأثر ثقة القطاع الخاص بعدم اليقين السياسي. وقد بلغ التضخم 5% في 2017، وهو ما يرجَّح أن يكون نتيجة لارتفاع تكاليف الواردات، ولا سيما النفط، وتراجُع سعر الدولار الأمريكي.

ولا يزال موقف المالية العامة بالغ الصعوبة وينطوي على مخاطر كبيرة. ففي يوليو/تموز 2017، أقر البرلمان اللبناني زيادة شاملة في سلسلة رواتب العاملين في القطاع العام والمتقاعدين من موظفي الخدمة المدنية. وفي النصف الثاني من العام، تمت الموافقة على مجموعة من الزيادات في الضرائب والرسوم. وبينما يُتوقع أن يكون الأثر الصافي على المالية العامة محايدا بوجه عام في 2018، فإن ارتفاع تكاليف الموارد البشرية وأسعار الفائدة ستكون أهم العوامل المساهمة في زيادة تراجُع مركز المالية العامة على مدار فترة التوقع. ويُتوقع أن يبلغ عجز الميزانية الكلي 7.3% من إجمالي الناتج المحلي في 2017، مع رصيد أولي قدره 2.4% – يرجع في جانب منه إلى الإيرادات الاستثنائية المترتبة على تحصيل ضرائب عن الأرباح المصرفية الزائدة المتأتية من العمليات المالية لمصرف لبنان. وبالإضافة إلى ذلك، يُلاحَظ تزايد الدعم المقدم لمؤسسة كهرباء لبنان والذي يرجع جزئيا إلى ارتفاع أسعار النفط.

وهناك اختلالات خارجية كبيرة ومزمنة. فقد سجل سعر الصرف الفعلي الاسمي ارتفاعا حادا في السنوات الأخيرة، كما زاد سعر الصرف الفعلي الحقيقي بنسبة 2.8% في عام 2017. وتشير التوقعات إلى أن عجز الحساب الجاري ظل أعلى من 20% في 2017. وتواصل صادرات السلع انخفاضها كنسبة من إجمالي الناتج المحلي، بينما تظل الواردات قوية، فيما يرجع جزئيا إلى ارتفاع أسعار النفط وانخفاض تكلفة القروض التي يتيحها مصرف لبنان من خلال عدة برامج تحفيزية تقوم على دعم الفوائد. ويعتبر عجز الحساب الجاري الكبير والمزمن وغيره من الاختلالات القائمة بمثابة دليل على وجود مبالغة كبيرة في تقييم سعر الصرف الفعلي الحقيقي.

ويواجه لبنان تحديات تعوق الحفاظ على تدفقات الودائع. ففي السابق، كانت تدفقات الودائع الأجنبية مصدرا أساسيا لتمويل العجز الكبير في الحساب الجاري والموازنة العامة. غير أن نمو الودائع شهد تراجُعا في السنوات الأخيرة، حيث بلغ نمو ودائع القطاع الخاص 3.8% في 2017 – وهو أدنى من متوسط النمو في السنوات السابقة.  

ولمواجهة هذه الظروف، يواصل مصرف لبنان التوسع في عملياته المالية غير التقليدية. فقد استحدث عدة عمليات مالية جديدة منذ صيف 2016 تتيح للبنوك التجارية المحلية حوافز كبيرة للاستثمار في الودائع الدولارية لأجل. وعلى ذلك، ارتفعت بسرعة درجة تعرض البنوك لديون مصرف لبنان منذ صيف 2016. وبينما أدت هذه العمليات إلى رفع إجمالي الاحتياطيات لدى مصرف لبنان وزيادة رأسمال البنوك التجارية، فقد فرضت تكلفة على ميزانيته العمومية ومركزه الصافي بالعملات الأجنبية، واتسمت بطابعها التنازلي. وبالإضافة إلى ذلك، استحدث مصرف لبنان عملية جديدة في ديسمبر/كانون الأول 2017 لتحفيز البنوك على تقديم ودائع أطول أجلا بالعملة المحلية، عن طريق زيادة بنسبة نقطتين إلى ثلاث نقاط مئوية في سعر الفائدة على ما تحمله البنوك حاليا من سندات مصرف لبنان طويلة الأجل.

ويعكس التصنيف الائتماني السيادي التحديات التي تواجه لبنان. فقد خفضت وكالة موديز تصنيف لبنان من B2 إلى B3 في أغسطس/آب 2017، بينما أبقت وكالتا فيتش وستاندارد آند بورز على تصنيفهما السيادي للبنان عند مستوى يعادل B-/B3 . وأثناء الأزمة السياسية التي وقعت في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، حدثت زيادة حادة في فروق العائد على سندات اليوروبوند اللبنانية في مقابل سندات الأسواق الصاعدة بمقدار 200-300 نقطة أساس، لكنها عادت إلى مستويات ما قبل الأزمة مع حلول يناير/كانون الثاني 2018.

ولا تزال آفاق الاقتصاد اللبناني محاطة بعدم اليقين. فطبقا للسيناريو الأساسي الذي وضعناه، سيرتفع النمو بالتدريج إلى 3% تقريبا مع تحسن الطلب الخارجي بفضل التعافي العالمي، بينما يُتوقع أن يظل التضخم حول اتجاهه العام البالغ 2.5% . ومن المتوقع أيضا أن تصل أرصدة المالية العامة الكلية إلى مستوى أعلى بكثير من 10% من إجمالي الناتج المحلي وأن يقترب الدين العام من 180% من إجمالي الناتج المحلي مع حلول عام 2023. وسيظل عجز الحساب الجاري كبيرا. وفي ظل السيناريو الأساسي الذي يفترض عدم إجراء إصلاحات أو زيادة في أسعار الفائدة، من المتوقع أن تتراجع كفاية الاحتياطيات في لبنان على المدى المتوسط، وإن كان هذا التوقع معرضاً لاحتمالات تخالف التوقعات سلباً وإيجاباً على المدى المتوسط. فمن الناحية الإيجابية، ترتبط آفاق الاقتصاد اللبناني ارتباطا وثيقا بالتطورات في سوريا. وإذا حُسِمت القضية السورية مبكرا، فسيصبح لبنان في وضع أفضل يتيح له الاستفادة من جهود إعادة الإعمار، فضلا عن عودة النشاط التجاري وتحسن ثقة المستثمرين الإقليميين. وسيكون لذلك انعكاسات إيجابية كبيرة على الدخول المحلية ومعدل النمو، وإن لم يكن كافيا لإعادة الدين إلى حدود يمكن تحملها دون الحاجة إلى إجراءات الضبط المالي. ومن الناحية السلبية، يمكن أن تؤدي التوترات في المنطقة إلى احتدام الصراعات أو وقوع حوادث أمنية، أو يؤدي ارتفاع أسعار النفط إلى زيادة احتياجات لبنان من التمويل، أو أن تتباطأ تدفقات الودائع الداخلة فتفرض ضغوطا على احتياطيات النقد الأجنبي.

أولويات السياسة

ويحتاج لبنان إلى تحرك عاجل للحفاظ على الثقة في النظام والاستفادة من الدعم الدولي. فطوال عدة سنوات ماضية، احتفظ لبنان بمزيج من السياسات يجمع بين سياسة المالية العامة التيسيرية وأسعار الفائدة الحقيقية المرتفعة على الودائع المصرفية، مع تقديم الائتمان بتكلفة منخفضة إلى القطاع الخاص عن طريق مجموعة متنوعة من البرامج التي تقدم دعما شبه مالي. غير أن تزايد مواطن الضعف عزز الحاجة لإنشاء إطار للسياسات يضع الاقتصاد والدين العام على مسار أكثر استدامة. وتعتبر زيادة مشاركة بعض البلدان المانحة فرصة سانحة أيضا لتأمين مساندة هذه البلدان لخطة إصلاحية واستثمارية. وينبغي التركيز على هذه المجالات الثلاثة في جدول أعمال الإصلاح.

ضرورة تطبيق خطة للضبط المالي

ولا مفر من إجراء عملية كبيرة للضبط المالي تحافظ على إطار السياسة الاقتصادية الحالي الذي يقوم على سعر صرف ثابت تدعمه تدفقات الودائع الداخلة الكبيرة. فقد بلغ الدين اللبناني مستوى غير مستدام طبقا للسيناريو الأساسي. وفي سياق من النمو المنخفض في لبنان وأسعار الفائدة المتزايدة عالمياً، سيزداد تدهور ديناميكية الدين ويزداد الدين العام بسرعة إلى مستوى أقل بقليل من 180% من إجمالي الناتج المحلي بحلول عام 2023 حسب السيناريو الأساسي، على أن يستمر بعدها في الارتفاع. وبالمثل، إذا لم يتحقق الضبط المالي، سيستمر ارتفاع احتياجات الحكومة من التمويل؛ وتزداد كثافة الاعتماد المتبادل بين البنوك والكيان السيادي؛ ويؤدي اعتماد لبنان المتزايد على تدفقات الودائع الداخلة إلى زيادة تعرض الاقتصاد للتقلبات المفاجئة في ثقة المودعين.

ولا يزال حجم الضبط المالي اللازم لإيقاف ارتفاع الدين العام في حدود قابلة للتحقق. لكنه يتطلب جهودا كبيرة ولن يكفي بمفرده لضمان الاستدامة. فالأمر يتطلب مزيجا من زيادة الإيرادات وتخفيض الإنفاق الجاري يصل إلى حوالي 5% من إجمالي الناتج المحلي على المدى المتوسط حتى يثبت الدين العام كنسبة من إجمالي الناتج المحلي ويبدأ اتخاذ مسار تنازلي مطرد. ولا شك أن لهذا الضبط الكبير كلفة مرتفعة، لكن رؤيته في حالة لبنان ينبغي أن تكون من منظور متطلبات التمويل وعجز الموازنة الكبير الذي يتجاوز 10% من إجمالي الناتج المحلي . ومع تطبيق برنامج شامل للضبط المالي والإصلاح الاقتصادي، يمكن تحقيق تحسن كبير في أوضاع الاقتصاد، بما في ذلك نسب الدين العام. غير أنه لن يكون خاليا من المخاطر، ذلك أن الضبط المالي المطلوب لم يتحقق إلا في عدد ضئيل من البلدان. وسيكون هناك عجز كبير في الحساب الجاري أيضا حتى بعد تحقيق الضبط المالي، ما لم يتم تعديل سعر الصرف و/أو إجراء إصلاحات هيكلية كبيرة، الأمر الذي يمكن أن يلقي شكوكا حول إمكانية تحقيق الاستدامة.

وقد يكون لبرنامج الاستثمار الرأسمالي آثار إيجابية على النمو، لكنه ينبغي أن يأتي مصحوبا بإجراءات قوية للضبط المالي والإصلاحات الهيكلية. فمن المرجح أن يعطي برنامج الاستثمار الرأسمالي دفعة للنمو الاقتصادي على المدى القصير إذا تم تنفيذه من خلال مشروعات منتقاة بدقة، لكنه سيؤدي في نفس الوقت إلى زيادة الدين العام، وربما تكلفة الاقتراض. ومن الضروري أن تكون أي زيادة في الاستثمارات مرتكزة على خطة شاملة لضبط الاقتصاد الكلي تُصمَّم على نحو يكفل تثبيت نسب الدين العام ثم وضعه على مسار تنازلي مطرد، على أن يسبقها تحسين إدارة الاستثمار العام.

وهناك حاجة ملحة لخطة ضبط مالي تتركز فيها التعديلات المالية في البداية وتكون جزءا من موازنة عامة موثوقة. وتجمع حزمة التعديلات المقترحة بين إجراءات تتعلق بالإيرادات وأخرى تتعلق بالإنفاق. وتشمل هذه الإجراءات: (1) زيادة معدلات ضريبة القيمة المضافة، مع تحسين الامتثال والحد من الإعفاءات والرديات الضريبية؛ (2) إعادة رسوم البنزين وضرائب المحروقات إلى مستوياتها السائدة قبل عام 2012؛ (3) الإلغاء التدريجي لدعم الكهرباء. ومن شأن التعديلات المقترحة أن تحقق تحسنا كبيرا في مسار الدين العام. وبالإضافة إلى ذلك، هناك مجال لاحتواء الإنفاق المتعلق بالموظفين وإصلاح جهاز الخدمة المدنية، وهو ما يمكن أن يحد من جمود الإنفاق ويخلق حيزا ماليا لتمتين شبكة الأمان الاجتماعي وتوفير حماية أكبر لمحدودي الدخل.

وينبغي تعزيز إطار إدارة الاستثمار العام قبل الاضطلاع بمشروعات استثمارية كبيرة. فمن الضروري تقوية الإطار المؤسسي في ضوء تقييم رسمي قبل القيام باستثمارات كبيرة. وينبغي احتواء المخاطر وتكاليف المالية العامة الناشئة عن أي شراكات بين القطاعين العام والخاص. وبالإضافة إلى ذلك، ونظرا لمحدودية القدرات المتاحة، ينبغي أن تنظر السلطات في زيادة الاستثمارات تدريجيا للحد من المخاطر على المالية العامة ومسار التنفيذ. وينبغي السعي للحصول على تمويل بشروط ميسرة جدا وتجنب تمويل الاستثمارات العامة من مصادر محلية.

استعادة الإطار النقدي المعتاد والحفاظ على الاستقرار المالي

وقد ساهمت سياسات مصرف لبنان الحالية في الحفاظ على الاستقرار ولكنها خلقت تشوهات سوقية أيضا. فالمصرف يعتمد سعر صرف ثابت، ويساعد في تمويل الحكومة بطرح سندات طويلة الأجل للبنوك، ويحافظ على ثبات أسعار الفائدة عند مستويات معتدلة عن طريق ضمان تغطية الاكتتاب في الأسواق الأولية لسندات الخزانة واليوروبوند، ويقدم دفعة تنشيطية للاقتصاد عن طريق مجموعة من برامج الدعم شبه المالي، ويعالج مشكلات البنوك الضعيفة، ويدعم أسعار الفائدة على الودائع لإطالة أجل استحقاقها. وبينما سمحت هذه الطائفة من العمليات لمصرف لبنان بأداء دور حيوي في الحفاظ على النموذج الاقتصادي الحالي وإدارة فترات الأزمة بكفاءة، فإن لهذه السياسات تكاليف أيضا، حيث أدت إلى خلق أموال احتياطية جديدة، وأضعفت الميزانية العمومية لمصرف لبنان، وخلقت مجموعة مختلفة من المخاطر على الاستقرار المالي عن طريق تعريض البنوك لمخاطر سيادية كبيرة وتفاوتات في آجال الاستحقاق.

وهناك صدمات متنوعة يمكن أن يؤدي تحققها إلى كشف مواطن الضعف في النظام المصرفي. ومن هنا تعتبر زيادة مستويات رأس المال المصرفي مؤخرا من الإجراءات الجديرة بالترحيب. فبينما يتجاوز رأس المال التنظيمي الإلزامي مستويات الحد الأدنى المقررة في اتفاقية بازل الثالثة، نجد أن رؤوس الأموال الوقائية لدى البنوك متواضعة مقارنةً بارتفاع درجة تعرضها للدين السيادي بالعملة المحلية وسندات مصرف لبنان الصادرة بالعملات الأجنبية – علما بأن أوزان المخاطر السيادية لا تتسق مع المعايير الدولية. كذلك تؤدي بيئة أسعار الفائدة المتصاعدة إلى مخاطر على ربحية البنوك ومراكز رأس المال. وبالإضافة إلى ذلك، فمن المرجح أن التباطؤ الملاحظ في الاقتصاد والقطاع العقاري، وتصاعُد أسعار الفائدة، قد أثرا على جودة الائتمان كما توجد علامات تشير إلى أن زيادة سوف تطرأ على القروض المتعثرة. وأخيرا، فإن الأصول الأجنبية للبنوك التجارية لا تزال منخفضة، وهو ما يرجع جزئيا إلى قيام البنوك بتحويل أرصدتها بالعملات الأجنبية من الخارج إلى مصرف لبنان – بحافز من العمليات المالية التي يقوم بها المصرف.

وينبغي أن يعتمد مصرف لبنان في الفترة المقبلة على سياسة أسعار الفائدة التقليدية بدلا من استخدام العمليات المالية. وإذا زاد تراجُع نمو الودائع، ينبغي أن يحافظ المصرف على سياسة تقييد السيولة وأن يرفع أسعار الفائدة لتأمين تدفقات داخلة بالنقد الأجنبي – بدلا من الاعتماد على تكرار العمليات المالية. وسيساعده هذا المنهج في تحسين وضع العملات الأجنبية لديه، وخلق حوافز للبنوك تشجعها على إعادة بناء السيولة الوقائية، مع الحد من مخاطر ارتفاع الدولرة من جديد. ومن المفيد أيضا كبح زيادة الدين المرتفع في القطاع الخاص، واحتواء الضغوط التضخمية، وإيقاف تدهور الميزانية العمومية لمصرف لبنان. ومن شأن خطة الضبط المالي الموصى بها أن تخفف الأثر السلبي لارتفاع أسعار الفائدة على ديناميكية الدين، نظرا لما تحققه من خفض في إجمالي التمويل المطلوب. كذلك ينبغي لمصرف لبنان أن ينسحب بالتدريج من السوق الأولية لسندات الخزانة واليوروبوند وأن يخفض الاعتماد على برامج الدعم شبه المالي.

وينبغي مواصلة تمتين هوامش الأمان في النظام المصرفي واتخاذ خطوات لمعالجة مخاطر تزايد الائتمان. فمن الضروري تنسيق أوزان المخاطر السيادية مع الأوزان المحددة في اتفاقية بازل، وأن تنخرط البنوك في عملية استطلاعية لتخطيط رأس المال بما يتوافق مع مواصفات المخاطر التي تواجه كلا منها وربط ذلك باختبارات تحمل الضغوط ذات العوامل المتعددة. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي تنسيق المعاملة التنظيمية للقروض المتعثرة/المعاد هيكلتها في ضوء الممارسات الدولية الجيدة، وتحسين مراقبة التحولات في تصنيف القروض استنادا إلى معدلات الخسارة على مستوى البنوك، وتشجيع إعادة هيكلة القروض المتعثرة على أساس مستدام. وأخيرا، سيكون من المهم تعزيز القواعد المنظمة للسيولة بغرض تحفيز زيادة آجال استحقاق الودائع وضمان ألا تتسبب البنوك في مزيد من الإضعاف لسيولتها الوقائية قصيرة الأجل بالعملات الأجنبية.

وعلى السلطات أن تعزز إطار إدارة الأزمات وإطار مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. ففي الماضي، كانت تتم معالجة ضعف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بصفة عاجلة، ولا سيما من خلال عمليات الدمج، دون تعريض الاستقرار المالي للخطر. ووفقا لمشورة برنامج تقييم القطاع المالي (FSAP) لعام 2016، ينبغي أن تنظر السلطات في وضع خيارات لتسوية الأوضاع تسمح بغلق البنوك الفاشلة، وإصلاح المؤسسة الوطنية لضمان الودائع (NIGD) لكي تصبح هيئة مستقلة من الناحية التشغيلية تحصل على التمويل من مساهمات البنوك التي تُدفَع بالكامل، وزيادة مستويات التغطية التأمينية للودائع، والتأكد من أن نظام تسوية الأوضاع المصرفية يتيح معاملة تفضيلية لأصحاب الودائع المؤمن عليها والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي الاستمرار في تقوية إطار مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في ضوء المشورة المقدمة من برنامج تقييم القطاع المالي لعام 2016.

تشجيع الإصلاحات الهيكلية

وقد أصبحت الإصلاحات الهيكلية ضرورة مع تناقص التنافسية وانخفاض النمو. فحتى بعد احتساب أثر الصراع السوري، نجد أن الرصيد الخارجي أضعف مما تبرره أساسيات الاقتصاد، مما يشير إلى مشكلة أساسية تتعلق بالإنتاجية والتنافسية. وسيؤدي تخفيض تكلفة مزاولة الأعمال، وتحسين الخدمات – وخاصة توفير الكهرباء – إلى زيادة الوظائف المتاحة لكل من المواطنين واللاجئين، مع تقوية شبكات الأمان الاجتماعي. وتمثل الإصلاحات الهيكلية ضرورة لتحسين التنافسية والنمو، والحد من هشاشة القطاع الخارجي.

ويعد إصلاح الكهرباء واستئصال الفساد من الأولويات القائمة منذ وقت طويل. فمن المعروف أن قطاع الكهرباء ليس فقط نقطة الضعف الأكثر إلحاحا في لبنان، بل هو مصدر كبير لاستنزاف موارد الموازنة أيضا. وإذا قدمت مؤسسة كهرباء لبنان خدمة يمكن التعويل عليها أكثر، فسوف تحد من الحاجة إلى مولدات الكهرباء الخاصة باهظة التكلفة، حتى بعد زيادة تعرفة الكهرباء، وتساهم في رفع كفاءة الاقتصاد ككل. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الحكومة تقر بانتشار الفساد وما يسببه من تكاليف اجتماعية واقتصادية كبيرة. ومن ثم ينبغي إدراج معالجة الفساد وتحسين الحوكمة كبند أساسي على جدول أعمال الإصلاح في لبنان.

وينبغي أن تركز إصلاحات الكهرباء على توسيع الطاقة وإلغاء الدعم. فلا تزال أسعار النفط المنخفضة نسبيا تتيح فرصة للبدء في رفع التعرفة إلى مستوى استرداد التكاليف، مع توسيع الطاقة – على أن يتم ذلك بطريقة توفر الحماية للمستهلكين الأقل دخلا. وستكون ثمار الإصلاح كبيرة، من حيث الوفر الكبير في الموازنة بسبب انتفاء الحاجة إلى المولدات الخاصة، وتخفيض تكاليف مزاولة الأعمال، وزيادة كفاءة الاستهلاك، على سبيل المثال لا الحصر. ويمكن أن تجمع السلطات بين تعديلات المالية العامة والتوسع في برامج المساعدة الاجتماعية لتخفيف الأثر على الأسر محدودة الدخل.

وينبغي تفعيل الإطار التنظيمي لمكافحة الفساد. فمن الضروري تقوية هذا الإطار إلى حد كبير وإدخاله حيز التنفيذ، وهو ما ينبغي أن يشمل إقرار تشريع لحماية كاشفي الفساد؛ وزيادة فعالية قانون الإثراء غير المشروع بجعل نظام التصريح بالأصول علنيا لكبار المسؤولين (وأعضاء أسرهم ومعاونيهم)، مع تطبيق نظام للتدقيق، مقترنا بإجراءات للبنوك تتيح مراقبة الأنشطة المشبوهة المتعلقة بالأشخاص المعرضين سياسيا والإبلاغ عن هذه الأنشطة؛ وإنشاء الهيئة المزمعة لمكافحة الفساد وإمدادها بالموارد الملائمة وصلاحيات الإنفاذ الكافية؛ وزيادة شفافية المالية العامة بطرق منها تعزيز الحوكمة في إدارة الضرائب والجمارك، وتحسين الالتزام بتعبئة الإيرادات، ومراعاة الشفافية في نظام المشتريات، واستحداث هيئة للتدقيق الخارجي.

وأخيرا، فإن تحسين جودة البيانات لا يزال احتياجا قائما منذ وقت طويل، ويمكن أن يؤدي إلى تحسين فرص جذب الاستثمار الدولي، وتعزيز صنع السياسات القائم على الأدلة. وعلى أقل تقدير، ينبغي تحسين جودة الحسابات القومية وإحصاءات ميزان المدفوعات، وزيادة تواترها، وجعلها أكثر حداثة؛ كما ينبغي جمع ونشر بيانات العمالة والبطالة والأجور بمعدلات أكثر تواترا؛ وتحسين بيانات التجارة في السلع والخدمات؛ ورفع جودة المؤشرات المستخدمة في مراقبة النشاط الاقتصادي؛ وتوثيق الحوار وزيادة تبادل المعلومات بين الهيئات المختلفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى