تقارير ووثائق

مصطلحات الفشل د.نسيم الخوري

إنّ الهدف من هذه الدراسة، هو تسليط الضوء على مفهوم الدولة الفاشلة لكثرة تداوله في الوقت الحاضر من قبل سياسيين وإعلاميين ومحللين ومفكّرين وغيرهم، ولمعرفة الغاية الحقيقية من وراء تصنيف الدول الضعيفة والمغلوبة على أمرها بالفاشلة، إذ يُعتمد في التصنيف على مؤشّرات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعية وعسكرية. من هنا، تكمن أهمية هذه الدراسة في إبراز إشكالية مفهوم الدولة الفاشلة ومعالجتها عبر استهداف الرأي العام العربي للتأثير فيه، وفي حاجة مختلف المؤسّسات الرسمية في الدولة اللبنانية، العسكرية والأمنية منها وغيرها، إلى معرفة خلفيّات استخدام مصطلح الدولة الفاشلة ومجالات تأثيره، وذلك لمواجهة العمليات النفسية وحروب المعلومات التي تقوم بها جهات مختلفة، وعلى وجه الخصوص العدو الإسرائيلي، ومن يقف خلفه ويدعمه من خلال تقارير مراكز الدراسات ووسائل الإعلام العالمية.

لذلك، تعالج هذه الدراسة مفهوم الدولة الفاشلة ومسبّباته التاريخية، وتباين هذا المفهوم مع المعيار المتّبع في تصنيف الدول وفي تسويقه لغايات وأهداف سياسيّة وعسكرية، بغرض زعزعة استقرار الدول المسمّاة فاشلة وتفتيتها أو تجزئتها، بحيث تمّ تناول الموضوع في مقدّمة وقسمين متوازنين ومتكاملين بالإضافة إلى خاتمة، وفق ما يأتي:

يستخدم مصطلح الدولة الفاشلة من قبل مختلف وسائل الإعلام في العالم، بوتيرة أسرع من السابق، إذ استحضر بقوّة خلال فترة ما سمّي بالربيع العربي ولا يزال، وتمّ إطلاق هذه التسمية من قبل دول وهيئات ومؤسّسات حكومية وغير حكومية، على دول عربية وغير عربية، بهدف التأثير في أوضاع هذه الدول من دون استعمال القوّة العسكرية، وذلك في إطار ما سمّي بالجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة.

يكتنف تعبير “الدولة الفاشلة” الغموض، إذ يؤخذ على هذا المفهوم بأنّه غير دقيق ويحتمل عددًا كبيرًا من التأويلات والتساؤلات، كما أعطي مجالًا أوسع ليشمل دولًا كثيرة، الضعيفة منها وغير الضعيفة، وذلك لأسباب عديدة، يرتبط بعضها بالوضع الداخلي للدولة الموصومة بالفشل على الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية، وبعضها الآخر بمصالح الدول الفاعلة ومخطّطاتها الآيلة إلى إعادة ترسيم مناطق النفوذ وإخضاع دول لغايات سياسية. بالإضافة إلى ذلك، دفع التطور الحاصل في وسائل الاتصال والتكنولوجيا، إلى استخدام تعبير الدولة الفاشلة للتأثير سلبًا في الرأي العام الدولي والإقليمي والمحلي، لناحية نظرة هذا الرأي الدونيّة إلى الدولة المسمّاة فاشلة، واعتبارها غير مؤهلة لتكون جزءًا من المنظومة الدولية، وبالتالي زعزعة ثقة الدول والمؤسّسات والأشخاص بالتعامل معها في مجالات شتّى.

أمّا النظام الدولي الجديد، ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين، فسيكون أخطر بكثير من النظام الدولي الذي سبقه في القرن العشرين، وإذا كان هذا الأخير قد نجح في تجزئة القوميات في العالم، وتكوين الدول والكيانات السياسية في آسيا وإفريقيا وشرق أوروبا وأميركا الجنوبية على أساس وطني أو إقليمي، فإنّ النظام الدولي الحالي سيعمل على اختراق تلك القوميات، وسيقوم بتفتيت بعض الدول والكيانات، بحيث لن تقارن النتائج التي أسفر عنها مؤتمر الصلح في باريس في العام 1919، بما سيحدثه هذا النظام من عمليات اختراق وافتعال أزمات وولادة دويلات في ظل سيادة تحالفات وتحكّم قوى جديدة.

القسم الأوّل، وعنوانه “مفهوم الدولة الفاشلة”.

القسم الثاني، وعنوانه “معيار استخدام مصطلح الدولة الفاشلة وتداعياته”.

القسم الأوّل: مفهوم الدولة الفاشلة

أوّلًا: نشأة الدولة

شكّلت ظاهرة الدولة محور نظريات عديدة، سعت إلى تفسيرها وإدراك جوهرها والتكهّن بمستقبلها. وقد كان للتجارب البشرية عبر العصور، الدور الأساس في نشأة الدولة الحديثة التي ظهرت في أوروبا مع مطلع عصر النهضة، بعد أن أخذ المجتمع السياسي في الغرب خصائص التجارب السابقة التي ميّزته بوضوح عن سائر أشكال المجتمعات.

 المفكّر الفرنسي جان بودان، لم يضع نظرية واضحة حول الغاية من الدولة، إلّا أنّه أرجع نشأتها إلى العائلة التي اعتبرها الخليّة السياسية الأولى، وهذا يظهر في تعريفه للدولة بما يلي: “إنّ الجمهورية هي الحكم المستقيم لعدّة أسر ولما هو مشترك لديها، شرط أن تتوافر لها قوّة سيّدة، والجمهورية هنا لا يعني بها شكل نظام الحكم المقابل للنظام الملكي، وإنّما الجماعة السياسية أي الدولة. وعرّف بودان السيادة بأنّها السلطة العليا التي يخضع لها المواطنون والرعايا، ولا يحدّ منها القانون، وأنّ السلطة ذات السيادة هي التي تميّز الدولة عن سائر التجمّعات الأخرى فيها”[1].

ويرى المفكّر الألماني ألتوسيوس، “أنّ الدولة لا تنشأ عن عقد مبرم مباشرة بين عدد غفير من الأفراد، وإنّما عن عقدٍ أطرافه المقاطعات أو المجتمعات المحلّية، وأنّ الدولة كتتويج للهرم، تبدو وكأنّها اتحاد بين الأقاليم والمدن المستقلّة. ولكن ألتوسيوس يلحّ على وحدتها القومية، ويصف الدولة بأنّها ليست درجة تضاف إلى الدرجات السابقة، بل إنّها المجموعة التكافلية الكاملة المستغنية أي المستكفية بذاتها”[2]. ويركّز ألتوسيوس على أهمية هذه الخصوصية لكي يصل منها إلى السيادة التي تكمن بالضرورة في الشعب باعتباره هيئة جماعية، ويرفض أن تكمن في رئيس الدولة. فكانت نظريته في السيادة أوضح بيان ظهر حتى ذلك الحين لسيادة الشعب، وأشد وضوحًا من نظرية بودان التي لم تفرّق بين السيادة والحاكم ذي السيادة أو الملك.

أمّا المفكّر الهولندي غروسيوس، فقد اعتبر أنّ الدولة هي بمنزلة اتحاد كامل بين رجال أحرار بغية التمتّع بحماية القانون، والعمل على نشر الرخاء العام[3]، ويرى أنّ الدولة في نشأتها الأولى تستند إلى أنّ الإنسان حيوان اجتماعي بطبيعته، وهذه الغريزة تدفعه بهدف المصلحة المشتركة إلى التآلف مع الآخرين. وبعد تعريفه للسيادة بأنّها سلطة لا تخضع إلى الرقابة القانونية من جانب شخص آخر، فرّق بين مالك عام للسلطة هو الدولة، ومالك خاص قد يكون شخصًا أو عدة أشخاص حسب دستور كلّ دولة. فالسيادة قد تكون للجسم أو الكيان السياسي، أي إلى الدولة كما عند ألتوسيوس.

واعتبر المفكّر الإصلاحي الإنكليزي جيرمي بنتام، أنّ ما يميّز الدولة عن سائر النظم الموجودة في المجتمع كنظام الأسرة مثلًا، هو أنّها مصدر القانون، وأساس وجودها عنده هو أنّها تضع القوانين بقصد الوصول بالمجتمع الى السعادة[4]. كما أعطى بنتام للدولة اختصاصات كبيرة، فهي ذات سلطان واسع كونها مصدر الحقوق، إذ إنّ الفرد لا يستطيع أن يحتجّ أمامها بالقانون الطبيعي ولا بالحقوق الطبيعية، فالدولة هي المتصرّفة.

ويقول الفيلسوف الألماني جون فريدريك هيغل، إنّ الجمهورية ليست أنظمة كاملة للحكم، سواء كانت شعبية أو أرستقراطية، وإنّ شخصية الدول لا تكون فعلية إلّا من حيث كونها شخص[5]. وهذا لا يعني أنّ الملك يستطيع أن يتصرف على هواه، بل إنّه بالعكس، مقيّد بمضمون المداولات التي يجريها مع من نصّ الدستور. وتتركّز الدولة في سلطة الملك أو الحاكم الذي له وضع مستقل عن مصالح الأفراد، وتتمثّل في ذاته وفي شخصه إرادة الدولة، فإنّه يحمل رسالة العالم التاريخية ويعبّر عن إرادة الروح. أمّا بالنسبة إلى السيادة، فيعتبرها كامنة في الدولة على أساس أنّها شخص قانوني، وعلى أنّ السيادة يجب أن تمارس عن طريق شخص حقيقي، وبما أنّ الدولة شخص معنوي، فإنّ الملك هو الذي تتمثّل فيه شخصية الدولة، والسيادة تعود إليه.

ثانيًا: مقوّمات الدولة

تعتبر كلمة دولة حديثة الاستعمال نسبيًا، إذ لم تعرف في أوروبا إلّا مع عصر النهضة، بحيث استخدمت منذ القرن السابع عشر للدلالة على الكيان الذي يشكل إطارًا وركيزةً للسلطة السياسية في آنٍ معًا، وقديمًا عبّر الإغريق عن المدينة الدولة بكلمة Polis، كما عبّر الرومان عن الجمهورية بكلمة Civitas أو Respublica. وقد ظهر المفهوم الحديث للدولة نتيجة تطوّر مفهوم السلطة، وتحوّلها من سلطة مغفّلة إلى سلطة مجسّدة فسلطة مؤسّسة، بحيث نشأت الأخيرة في سياق تطور تاريخي وحضاري للمجتمعات البشريّة، والتركيز على الوجه التاريخي للدولة هو أساسي، لأنّه سبقت نشوءها أنواع أخرى من التنظيمات السياسية والقبلية، والحواضر، والإمبراطوريات القديمة والأنظمة الإقطاعية.

إنَّ تعريف الدولة بأنّها التجسيد القانوني لأمة ذات سيادة، يُبرز فكرة الشخصية المعنويّة أو القانونية التي تتمتّع بها، وللدولة خصوصية تمتاز بها عن سائر الوحدات السياسية (القبيلة، الحاضرة…إلخ)، فهي كيان سياسيّ وحقوقيّ، مادتها الحقيقية الشعب وخاصيتها الأساسية السيادة. وتنشأ الدولة على المستوى الحقوقي، عندما تجتمع ثلاثة عناصر هي الإقليم والشعب والسلطة السياسية ذات السيادة، إذ إنّ وجود هذه العناصر مجتمعة ضروري وكافٍ لوجود الدولة[6]. فالشعور بالانتماء إلى وطنٍ ما، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأرض، حيث لا يمكن تصوّر وطن أو دولة من دون أرض أو إقليم يقومان عليهما، بحيث يشكّل الإقليم الإطار الجغرافي لممارسة الدولة سلطتها السياسية والحكام وظائفهم، وهو العنصر الأكثر ثباتًا، إذ إنّ كلّ شيء قابل للتغيير، باستثناء الأرض التي هي الرمز والحامي لفكرة الوطن. كما أنّ وجود جماعة بشريّة في بقعة جغرافية واحدة، يؤدي عمومًا إلى تقوية الروابط في ما بينها، بسبب تداخل المصالح الاقتصادية والسياسيّة والاجتماعية. وبالتالي، تفترض الدولة وجود شعب على هذا الإقليم، فأرض لا يعيش عليها شعب لا يمكن لها بأي حال من الأحوال أن تكون دولة مهما اتسعت مساحتها.

السلطة ذات السيادة، هي العنصر الثالث المكوّن للدولة، والتي تكفل للسلطة السياسية ممارسة دورها ضمن حدود الإقليم لتحافظ على النظام العام، بعيدًا من التدخلات الخارجية، إذ لا يمكن لأيِّ دولة أو منظمة دولية أن تفرض إرادتها على سلطة دولة ذات سيادة[7]. وسنرى في سياق هذه الدراسة كيف أنّ الإقليم والسيادة يمثّلان العاملين المركزيين في تحديد الدولة الفاشلة من عدمها.  

فالسيادة استخدمت تقليديًا للإشارة إلى مجموعة الوظائف التي تمارسها الدولة في بداية الأمر، وكانت العبارة تؤشّر إلى سيادة الأمير على رعاياه، وهي عبارة لها علاقات بالسلطات في داخل الدولة الواحدة، ولاحقًا أصبحت مستعملة لوصف كل من السلطات الداخلية وبعض العلاقات الخارجية، غير أنّ المظاهر الخارجية لم تصبح مهمّة إلّا بعد بروز الدول الأمم في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وبعد تلك الحقبة أصبح هناك عدة دول في أوروبا، وبات من الضروري دراسة العلاقة بين الدول والملوك[8]. ثمّ تبلور العديد من الأحداث تدريجيًّا بسبب نشوء الكثير من الدول الجديدة، فاستخدم هذا المفهوم لتغطية ثلاثة حقوق مهمّة للدولة في ظلِّ القانون الدولي: حق المساواة وحق الاستقلال وحق تقرير المصير. أولى هذه المسائل له علاقة بالعلاقات الخارجية للدولة، في حين أنّ حق الاستقلال له علاقة بالمظاهر الخارجية وبسلطة الدولة على أراضيها. وبعبارة أخرى، “إنّ السيادة في العلاقات بين الدول تعني الاستقلال في ما يتعلّق بجزء من الكرة الأرضية، والذي هو الحق في ممارسة وظائف الدولة باستثناء بعض الدول ذات الطبيعة المختلفة[9]. ويبدو أنّه ثمة علاقة سببية بين مفهوم المساواة وحق الاستقلال، كون جميع الدول متساوية في ظل القانون الدولي وتتمتع بحقوق الاستقلال.

ثالثًا: ولادة مصطلح الدولة الفاشلة وأسبابه

بدأ الاهتمام بمفهوم الدولة الفاشلة من قبل أكاديميّي السياسة وصانعيها منذ بداية الثمانينيّات، إلّا أنّ الترويج السياسي له ظهر في أوائل التسعينيّات في خطاب مندوبة الولايات المتحدة الأميركية في الأمم المتحدة، في سياق حشد الجهود الدولية لمساعدة الصومال وإنقاذها. وتلى ذلك ترويج للمفهوم من خلال استخدام المصطلح على يد كلّ من جيرالد هيلز وستيفن راتنر[10]، من خلال دراسة نُشرت لهما في العام 1993 في مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy، الصادرة في الولايات المتحدة الأميركية، ثمّ الدراسة التي أعدّها ويليام زارتمان[11] عن الدولة المنهارة في العام 1995. ولكن لم تحظ مخاطر الدول الفاشلة على السلم والأمن الدوليين بالاهتمام الكافي من قبل دول العالم، إلّا في بداية القرن الحالي. وبهذا، كانت أميركا من أوائل الدول الغربية التي اهتمّت بهذا المصطلح أكاديميًا، ثم سياسيًا وأمنيًا وتنمويًا، ما كان له الأثر البالغ في بلورة المصطلح إلى الشكل الذي وصل إليه الآن. وكان هناك مسمّيات ومصطلحات مشابهة للدولة الفاشلة، وهي: شبيهة الدولة، الدولة المنهارة، الدولة الهشّة، الدولة الرخوة، الدولة المائلة إلى الفشل، الدولة المعرّضة للخطر، الدولة المأزومة والدولة الضعيفة، ما أدى الى التداخل بين هذه المفاهيم التي تصف الظاهرة نفسها[12].

وكان يُنظر إلى الدول الفاشلة خلال حقبة الحرب الباردة، على أنّها جزء من الصراع بين القوّتين العظميين آنذاك، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. وفي تسعينيّات القرن الماضي، بدأت الدول المسمّاة فاشلة تحظى باهتمام أكبر من قبل الدول الكبرى، لأسباب إنسانية ناتجة من تفاقم انتهاكات حقوق الإنسان. وكانت منظّمات حقوق الإنسان في الدول الكبرى هي المحرك الأساس في هذا الاتجاه، بحيث مارست هذه المنظّمات في حينه ضغوطًا شديدةً على حكوماتها، ما أدّى إلى تدخل الدول الكبرى عسكريًا في بعض الدول، كالصومال وهاييتي والبوسنة والهرسك. ولكن ثمة فارق كبير بين فشل الدولة وانهيارها الناتجين من اندلاع الصراعات الداخلية والإقليمية، وهو ما يمكن اعتباره الحالة الكلاسيكية للفشل، وبين الدول التي فشلت وظيفيًا نتيجة إخفاقات متتابعة في أداء مؤسّساتها وسياسة حكوماتها في ظل تنامي متطلّبات شعبها بما يفوق مواردها وقدراتها القائمة، الأمر الذي يحتّم في مرحلة معينة انهيار هذا النظام واستبداله بآخر أكثر فعالية ووظيفيّة.

أمّا الاهتمام العالمي بمخاطر الدول الفاشلة، فقد بدأ يزداد بعد أحداث 11 أيلول من العام 2001، حيث اعتبرت هذه الدول منطلقًا لتصدير المخاطر(الإرهاب الدولي، تجارة المخدرات، الأسلحة غير الشرعية، اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، …إلخ) إلى دول العالم الأخرى، بما فيها الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية، فأُعطي مفهوم الدولة الفاشلة مجالًا أوسع ليضمّ دولًا كالعراق، وذلك تحت شعار “الحرب على الإرهاب”. ويتّضح من السياق الزمني لظهور المفهوم، ارتباطه بالتغيّر الحاصل في هيكليّة النظام الدولي، ما يثير في الذهن حملات تقسيم العالم لمصلحة القوى الكبرى إبّان الأحداث العالمية التي تعيد تشكيل موازين القوى، ما يستلزم التعامل مع المفهوم بحيطة وحذر، نظرًا للتسييس الشديد له من قبل جهات مختلفة.

رابعًا: ثغرات المفهوم وغموضه

قدَّم عدد من الباحثين العديد من التفسيرات لمصطلح “الدولة الفاشلة”، نتيجة صعوبة ضبط مفاهيمه، فيما تبنّى تقرير “مؤشّر الدول الفاشلة” الصادر عن مجلة “السياسة الخارجية” و”مؤسّسة صندوق السلام” تعريفًا هو الأكثر استخدامًا، إذ تضمّن سمات الدول الفاشلة ومؤشّراتها، وهو فقدان الحكومة المركزية سيطرتها على إقليم أو أقاليم من أراضيها، أو فقدان الدولة حقها السيادي في احتكار قوّتها بشكل شرعي، ما يعرّضها للاضطرابات وحركات العصيان المدني، فتصبح الدولة عاجزة عن تقديم الخدمات المجتمعية.

تصبح الدولة فاشلة عندما تكون سيادتها مقيّدة بسبب تعرضها لعقوبات اقتصادية، وسياسية، وعسكرية، أو وجود قوات أجنبية على أراضيها. ويمكن التعرف إلى بعض خصائص هذا المفهوم، ومنها عدم قدرة الدولة أو رغبتها في حماية المواطنين واعتبار نفسها فوق القانون المحلي أو الدولي، فتمارس العنف وترتكب العدوان، أو تعاني عجزًا ديمقراطيًا يجرِّد مؤسّساتها الحكومية من جوهرها الحقيقي. ومن خلال هذه السمات والخصائص، يصبح من السهل جدًا اتهام الدول بالفشل من دون وجود وقائع أو حقائق تدلّ على الفشل، وهنا يكمن الالتباس والافتقار إلى الدقة في المفهوم.

لذلك، لم يكن مصطلح أو تعبير الدولة الفاشلة وليد المصادفة، إنما تمّت دراسته بعناية ودقة متناهيتين من قبل جهات سياسية دولية، رسمية وغير رسمية، بحيث أدّت الآلة الإعلامية الأخطبوطية في الغرب ولا تزال، الدور المحوري في تسويق هذا المصطلح الذي يرافق السلوك العام لهذه الجهات، والمتمثل بالجهود السياسية والديبلوماسية والإعلامية، وبالعمليات العسكرية والأمنية والثقافية والنفسية. بالإضافة إلى ذلك، ثمَّة مشكلات تكتنف تعبير الدولة الفاشلة إلى حدّ الإحباط، مثله مثل تعبيري “الدولة الإرهابية” و”الدولة المارقة”[13]. فالدولة الإرهابية، هي عندما ترعى الحكومات الإرهاب أو تقدّم الدعم له، ضد مواطنيها أو ضد مجموعات أو حكومات أجنبية. أمّا الدولة المارقة، فهو مصطلح سياسي يطبّق على دول لا تعدّ نفسها مقيّدة بالأعراف الدوليّة، أو أنّها تشكّل تهديدًا لجيرانها أو العالم، أو أنّها دولة خارجة على القانون[14].

وقد عالج بعض المفكّرين إشكاليات مصطلحي “الدول الفاشلة” و”الدول المارقة” وغيرها من المصطلحات، أمثال الفيلسوف والمؤرخ الأميركي نعوم تشومسكي، أستاذ الفلسفة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة الأميركية، لناحية أنّ تعريفه غير متماسك، ويخدم سياسات دول تسعى إلى التدخل في شؤون دول أخرى. فالدول تفشل في معظم الأحيان من جرّاء أسباب خارجية وليست داخلية، وذلك عن طريق إذكاء الصراعات الإثنية أو الطائفية أو المذهبية أو غيرها، كما هو حاصل في الوقت الحاضر في منطقتنا العربية. وبهذا، يتمّ إضعاف أنظمة الحكم في هذه الدول لسلب إرادتها السيادية، ليسهل التدخل في شؤونها وفرض الشروط عبر الإكراه، وبالتالي إعلانها دولًا فاشلة، وهنا تكمن الاستنسابية الكبرى في تصنيف الدول الفاشلة، إذ تختلف في كل حالة نقطة خرق أو أكثر، يتم النفاذ منها لوصف الدولة بالفشل، وهنا أيضًا تبرز الأهداف غير البريئة وتتوضّح.

وبناءً على ذلك، الدولة التي لا تستطيع القيام بوظائفها الأساسية ولا تستطيع الوفاء باحتياجات أفراد شعبها الأساسية بشكل مستمر، ما يؤدي على المدى الطويل إلى حالة من عدم الاستقرار، لا يمكن الحكم على فشلها بمعزل عن محيطها الإقليمي ومستجدات النظام الدولي وقضاياه، بحيث تدلّ عليها مؤشّرات سياسية وأمنيّة واجتماعية واقتصادية وثقافية ومجتمعيّة…إلخ. وتتعاظم عوامل الفشل، إمّا بسبب انخراط الدولة في صراع لفترات طويلة، أو لقصور بنيوي في مؤسّساتها لظروف تاريخية وجغرافية وديموغرافية…إلخ، أو لمواجهة أزمة حادة ومفاجئة.

خامسًا: آلية تصنيف الدول الفاشلة والمعايير المعتمدة

أصدر صندوق السلام العالمي[15] في العام2005، بالتعاون مع مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy، أوّل مؤشّر سنوي حول الدول الفاشلة، ضمَّ 76 دولة بينها 13 دولة عربية. وفي العام 2006، صدر المؤشّر الثاني ليضمّ 146 دولة، بينها 16 دولة عربية، وفي العام 2007, صدر المؤشّر الثالث ليشمل 177 دولة، من بينها 20 بلدًا عربيًا. أمّا الهدف المعلن من إصدار المؤشّرات، فهو إثارة النقاش حول تطوير الأفكار المساعدة للاستراتيجيات الهادفة إلى تحقيق السلام الدولي[16].

1- رغم تعدّد التعاريف المستخدمة للدولة الفاشلة، هناك معايير معتمدة يجب توافرها لتصنيف الدول الفاشلة، ومنها ما يأتي:

– عدم قدرة الحكومة المركزية في الدولة على فرض سلطتها على ترابها الوطني.

– عدم قدرة الحكومة المركزية على تأمين حدودها من الاختراقات الخارجية سواء حدودها البرّية أم مياهها الإقليمية أم مجالها الجوّي.

– عدم تمتّع الدولة بالشرعية اللازمة للحكم وانعدام تداول السلطة فيها، وتفشّي الفساد الإداري في أجهزتها ومؤسّساتها، بالإضافة إلى غياب النظم القانونية أو ضعفها.

– الانقسام المجتمعي وحدَّة الصراعات الدينية والعرقية المهدّدة لوحدتها الوطنية.

2- أمّا المؤشّرات الموجودة في الدول الفاشلة، فهي عبارة عن مؤشّرات اجتماعية واقتصادية وسياسية وعسكرية.

– المؤشّرات الاجتماعية، وتشمل: الضغوط الديموغرافية المتزايدة، هجرة السكان أو نزوحهم في الداخل من منطقة إلى أخرى أو الحركة الكبيرة للنازحين، تنامي عدد المجموعات التي تسعى إلى الانتقام من مجموعات أخرى، المشكلات الحزبية والعرقية، الفقر والبطالة والجريمة والمخدرات والسرقة، وتنامي الهجرة المزمنة والطوعية بما في ذلك هجرة الأدمغة.

– المؤشّرات الاقتصادية، وتشمل: التنمية الاقتصادية غير المتكافئة ما بين المجموعات التي تنتمي إلى البلد الواحد (الإنماء غير المتوازن)، والتدهور الاقتصادي الحاد (اختلالات بنيويّة، ركود في الدورة الاقتصادية، وانهيار قيمة النقد الوطني).

– المؤشّرات السياسية، وتشمل: تراجع مساحة الشرعية في النظام السياسي القائم، فقدان الثقة بالدولة ومؤسّساتها، تراجع وظيفة الدولة لجهة تقديم الخدمات العامة، إساءة استخدام السلطة وزيادة التدخل الخارجي في شؤون الدولة الداخلية، زيادة الشقاق الحزبي، والصراعات بين النخب الحاكمة.

– المؤشّرات العسكرية، وتشمل: انتهاكات حقوق الإنسان، ضعف السلطة الأمنية، وبروز قوى أمنية غير نظامية.

القسم الثاني: معيار استخدام مصطلح الدولة الفاشلة وتداعياته

أوّلًا: الدولة الفاشلة والقانون الدولي

إنّ انهيار النظام في دولة ما يمكن أن يمتد إلى جوارها، ما يدفع الدول المجاورة إلى التدخّل، إلّا أنّ هذا التدخل ينتهك سيادة الدولة ويتعارض مع القانون الدولي، وفي الوقت نفسه نرى أنّ الخروج من دورة الفشل غير ممكن من دون تدخّلات خارجية مكثّفة، وهذا ما يتيح للمؤسّسات الدولية والدول الكبرى وضع قيود على الدول المأزومة، تسلبها حقوقًا سيادية وتفقدها السيطرة على قرارها الوطني من دون أن توصلها إلى برّ الأمان بصورة كاملة، أو تساعدها على التعافي التام والدائم.

أنشأت الأمم المتحدة ما عُرف بمبدأ “مسؤولية الحماية”، الذي يسمح بالتدخل في الحالات التي تكون فيها الدولة الفاشلة غير قادرة على تجنيب شعبها المعاناة إلى حدّ كبير، وكونه لا يوجد تحديد للدولة الفاشلة معترف به دوليًا، أتاح هذا الوضع للدول القوية تكييف مسؤولية الحماية بحسب مصالحها. فثمّة ما يقارب الستين من الدول الفاشلة، وبوجود دول مثل الصومال وأفغانستان وغيرها، نلاحظ بروز مشكلة قانونية، كونه لا يوجد تحديد شامل لمكونات الدولة الفاشلة على صعيد القانون الدولي العام. كما أنّ هناك تعارضًا قانونيًا بشأن تدخل الدول المجاورة، إذ إنّ المنظمات الدولية كالأمم المتحدة، يمكن أن تعتبر مسؤولية الحماية بمثابة ردّ ضروري على المجازر والتطهير العرقي وأعمال العنف الأخرى التي قد تكون متّصلة بالدولة الفاشلة، إلّا أنّ الكثير من الدول المنضوية في المنظمة قد تكون أيضًا ملتزمة عدم تدخّل الدول الخارجية في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة.

إنّ مشكلة التحريف بالتعريفات القانونية والعامة لغايات سياسية، هي الأكثر شيوعًا في العلاقة بين الدول الفاشلة والقانون الدولي، وهذا ما دفع  البعض إلى التمادي في الإمعان بهذه المشكلة، للوصول إلىاتجاهات أكثر غرابة تصبّ في مصلحته السياسية. “ففي العام 2002 على سبيل المثال، كتب وكيل المدّعي العام في الولايات المتحدة الأميركية جون يو مذكرةً لوزارة الدفاع، كان من شأنها أن تعرّض التزام الولايات المتحدة بمعاهدة جنيف للخطر. فقد أشار يو حينها في تلك المذكرة إلى “أنّ أفغانستان هي بالفعل دولة فاشلة، وأنّ الأفراد المعتقلين في عمليات عسكرية والمشتبه بكونهم أعضاء من الطالبان أو القاعدة، لا يحقّ لهم التمتع بحماية جنيف، لأنّ تلك البلاد لم تعد تمتلك مقوِّمات الدولة الضرورية للاستمرار كطرف في المعاهدة”[17]. لذا من دون تعريف قانوني لمقوّمات الدولة الفاشلة، بغضّ النظر عن ضعف هذه الدولة، فإنّ الاتفاق العام هو أنّه على هذه الدول أن تبقى مشمولة في الاتفاقيات والمعاهدات القانونية الدولية، ولكن ذلك من شأنه أن يخلق الكثير من اللغط حول مبدأ مسؤولية الحماية من دون شك. وطالما أنّ مفاهيم النوايا الحسنة الدولية، تستمر في انتهاك السيادات، فإنّ هذه المشكلة القانونية ستستمر إلى أجلٍ غير مسمّى.

من جهةٍ أخرى، يجدر بالإشارة إلى أنّ هناك إقرارًا قويًا بفكرة الوجود المتواصل للدولة، ومن الواضح أنّ القواعد التي تنطبق على الاعتراف بكيان ما كدولة، تصبح أكثر ليونة ما أن يتمّ ضمّ هذا الكيان إلى نادي الدول. والأساس المنطقي لهذا الإقرار، هو وجود الاستقرار كإحدى وظائف القانون الدولي للحفاظ على النظام، وهو ما يعتمد بدوره على العلاقات الدولية وثباتها حيث أمكن وكان ذلك مناسبًا، للحفاظ على الوضع القائم. على هذا الأساس، اعتبرت لجنة بادنتر بأنّ فقدان الشخصية هو أمر له تبعات مهمّة في القانون الدولي ويتطّلب التزام الحيطة[18]. ويشرح الإقرار لماذا من المقبول اعتبار أنّ خسارة قسم من الأراضي لا يؤثّر على الشخصية القانونية، بأنّ هذا الموضوع ليس مبنيًا على مخاوف مبهمة حول هوية الدولة، إنّما على الحاجة العملية إلى استمرار الحقوق والواجبات على الرغم من حصول تغييرات طالت الأراضي، بحيث تصبح الشرعية القانونية مقوّضة في حال أدّى كلّ تغيير على صعيد الأراضي إلى تعديل واجبات الدولة تجاه دول أخرى، ويمكن هنا قول الأمر نفسه عن الكيانات التي غالبًا ما توصف بـ”الدول الفاشلة”.

إنّ تطبيق شرط وجود حكومة بشكل مرن، حيث ترى الدولة النور في البداية، هو دليل واضح على أنّ الإخفاق في المحافظة على حكومة فاعلة لا ينجم عنه الزوال، إذ يقترح جيرارد كرايزن بأنّه “من الممكن الافتراض بأنّ حصول الخلل الذي يلحق بأي من العناصر المكوّنة للدولة، لا يعرّض استمراريتها للخطر”[19]. فالصومال على سبيل المثال، بقيت دولة على الرغم من غياب حكومة فاعلة فيها على مدى أكثر من 10 سنوات، وعدم تمتّعها بأي تمثيل على الصعيد الدولي والعجز عن الحصول على مقعد في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وغياب السفارات الممثّلة لها خارج البلاد، وإلى إقفال جميع البعثات الديبلوماسية الأجنبية في مقديشو. بالإضافة إلى ذلك، نجحت 140 دولة أخرى في البقاء والاستمرارية على الرغم من غياب القدرة التامة على السيطرة على أراضيها خلال مدة ثمانية أشهر (في حالة الكويت)، ولمدّة سبع سنوات (في حالة أفغانستان)، ولمدّة عشر سنوات (في حالة إثيوبيا). هذا المبدأ انتُقد واعتُبر من الخيال، الأمر الذي أدّى إلى منح الدول صفة الخلود وهذا أمر غير ثابت أو صحيح من الناحيتين القانونية والتاريخية، وذلك بالنسبة إلى الدول المتداعية للسقوط، والتي لا يُسمح باختفائها قضائيًا حتى في حال كانت قد سقطت بالفعل.

أمّا من حيث إيجاد حل لمعضلة الدولة الفاشلة، “فثّمة اقتراح يقضي بتأسيس فئة جديدة قانونية, وهي “شبه الدولة” التي تمتلك كيانًا دوليًا وقضائيًا، وتدلّ على كيان سياسي آخر مستقل ومحدود، وتتمتّع بواجبات وحقوق أقل من الدول العادية”[20]، بحيث لا يمكن التوقّع من دولة فاشلة أن تنفّذ واجباتها كاملةً وحقوقها قليلة، لأنّه يجب على هذه الواجبات والحقوق أن تتساوى. إنّ هذا المفهوم يطرح إشكالية لسببين: أولًا، هناك غموض حول طريقة تعامل هذه الدولة مع تعادل سيادات الدول الأخرى، بحيث أنّ هذه الحالة ستخلق عدم مساواة، إلّا أنّه يُقترح على الرغم من غياب المساواة مع سائر الدول، أن تبقى هذه الكيانات دولًا. كما يُقال أنّ المسألة الحقيقية هي انتقال الدولة من فئة إلى أخرى، ولكن الدول كلّها تبقى دولًا بشكلٍ ما، فانتقال إحداها من فئة إلى أخرى قد يحدث تغييرًا أقل جذرية من خسارة صفة الدولة بالكامل. غير أنّ نجاح ذلك من الناحية التطبيقية ليس واضحًا، كما أنّه ليس معروفًا كيف أنّ نظامًا مرتكزًا على هيكلية من الدول يمكن أن يعمل. ثانيًا، في إطار “الدول الجزر”، ليس واضحًا أي من الحقوق سيتمّ تقليصها أو إلى أي حدود. أمّا في إطار “الدولة الفاشلة”، فمن المرجّح أن يكون أحد الحقوق التي سيتم إلغاؤها، هو الحق بامتلاك حدود غير قابلة للخرق. إلّا أنّه في الوضع الحالي، لا يوجد أي موضوع أو حق مباشر يمكن اعتباره ملغى. فقد يكون الخيار الأنسب هو في الحقوق التي تتعلّق بالشعوب، وهذا الأمر يطرح إشكالية بالفعل، نظرًا إلى أنّ الشعب هو من سيكون محطّ الاهتمام الأوّل للدولة الجزيرة.

وأخيرًا، يجدر بالإشارة إلى مسألة تقنية في ما يتعلّق بالمثول أمام محكمة العدل الدولية، بحيث “تنصّ شرعة الأمم المتحدة على أنّ جميع الدول الأعضاء فيها، هي بطبيعة الحال أطرافًا مشاركة في النظام الأساسي للمحكمة المذكورة، ومن الممكن القول بأنّ المراجع في المادة 34 من النظام الأساسي لها والمتاحة فقط أمام الدول، يجب أن تُقرأ لتمكين هذه المحكمة من التمتّع بسلطان قضائي في قضايا تشمل دولًا أعضاء في الأمم المتحدة، بغضّ النظر عن أوضاعها كدول. فهذا الأمر يتطابق مع الرأي الذي يقول، بأنّ السلطان القضائي لمحكمة العدل الدولية يجب تمديده إلى أكبر حدّ ممكن. وبناءً على وجهة النظر هذه غير الواضحة، يتمتّع كل كيان بمنزلة طالما أنّه يبقى عضوًا في الأمم المتحدة، والمعنى المبسّط للمادة 34 من النظام الأساسي للمحكمة، هو أنّ الدول هي وحدها التي تتمتّع بمنزلة. فضلًا عن ذلك، تطرح هذه الحجة السؤال حول استمرارية العضوية في الأمم المتحدة، وهو سؤال مذكور في المادة ٤ من شرعة الأمم المتحدة التي تحصر العضوية بالدول، ويُقترح أيضًا بأنّ الدول الأكثر فشلًا تخسر معظم حقوقها وواجباتها، والدول الأقل فشلًا تخسر قدرًا أقل منها، ولكنَّ التطبيق هو أمر صعب”[21]. وعلى سبيل المثال، ما المعنى من القول بأنّ الصومال أكثر فشلًا من يوغوسلافيا؟ فضلًا عن ذلك، المقارنة تحمل في طيّاتها درجة معينة من الاجتهاد والسلوك الفوقي، وإحدى الوسائل المتاحة لتجنّب هذه المسألة، هي عبر قيام “الدولة الجزيرة” من خلال البدء بالإجراءات اللازمة قبل الغرق.

ثانيًا: الوضع الراهن والبيئة السياسية الحالية في المنطقة والعالم

يشهد العالم منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، حالة من الاضطراب والفوضى تهدّد باستمرارها مقوّمات وجود الكثير من الدول وسيادتها. كذلك يعيش النظام العالمي اليوم أزمات حادّة بسبب احتدام الصراع حول مبدأ توازن القوى المعمول به بين الدول منذ “معاهدة وستفاليا” في العام  [22]1648، والذي شهد اختلالًا كبيرًا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ يقوم مفهوم توازن القوى على مبدأين أساسيين، هما: العمل على زيادة القوّة الذاتية للدولة كي تتوازن مع قوة دولة أخرى، والعمل على إضعاف القوى المنافسة لها، بحيث يفترض وجود عدد كبير من الدول المتفاوتة في قواها والتي تمثّل مجتمعةً ما يعرف بالمجتمع الدولي، وهذا التفاوت في القوى يدفع بعضها الى إقامة تحالفات أو محاور قوى متكافئة بغية التقليل من احتمالات الحرب وزيادة فرص السلام، وحماية استقلال الدول المنضوية في المحاور المتقابلة. كما ارتبط مبدأ توازن القوى بصورة دائمة بسياسة القوة في العلاقات السياسية الدولية، باعتباره أداةً لتنظيم الصراعات الدولية أو صراعات القوى ليسود الاستقرار في المجتمع الدولي.

والصراع الذي بات يهدد كيانات بعض الدول وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط، أسهم في بروز ظاهرة الإرهاب التي أصبحت وسيلة لتفكيك الدول المستهدفة وتقسيمها، كمقدّمة لتحويلها إلى دول تلصق بها تهمة الفشل، وتمهِّد لنشوء كيانات طائفية ومذهبية وإثنية متناحرة، في نظام عالمي غير واضح المعالم. فيرجّح تاريخ العلاقات الدولية أنّه عند صعود قوى جديدة، لا بدّ من اندلاع الصراعات مع القوى القائمة بالفعل. كذلك، يرى بعض خبراء التاريخ أنّ الفترات الانتقالية في النظام الدولي تكون شديدة الخطورة على أمن الدول. من هنا، يمكن فهم أسباب بعض الأزمات والصراعات المنتشرة في بعض دول المنطقة والعالم، وارتباطاتها بآلية تمركز القوّة أو انتقالها. ووسط هذا الجو المتوتّر، دأبت بعض قوى العالم على استخدام مصطلح الدولة الفاشلة، كمبرّر لاجتياح بلدان معينة أو لتحقيق مجموعة من أهداف سياستها الخارجية، وذلك بذريعة أنّ الدول الفاشلة تشكل تهديدًا أمنيًا عالميًا، خصوصًا وأنّ غياب المؤسّسات في هذه الدول يؤمِّن ملاذًا آمنًا للإرهابيين وأرضًا خصبة لتنامي التطرف.

في هذا الوضع السائد، دخل لبنان في مرحلةٍ جديدةٍ مع انطلاق ما سمّي بالربيع العربي، بحيث جاءت في ظل وضع متأزّم في الداخل بسبب الأزمتين السياسية والمعيشية، وعلى حدوده الشرقية نتيجة الحرب في سوريا، وعلى حدوده الجنوبية حيث لا تزال عناصر المواجهة قائمة مع العدو الإسرائيلي. فكُتبت عدة مقالات[23] في الصحافة العالميّة منذ اندلاع الأحداث في سوريا، عن إمكانية تحوّل لبنان إلى دولة فاشلة، وذلك بسبب الوضع العسكري المضطرب على حدوده الشرقية، والأعداد الكبيرة من النازحين السوريين الذين دخلوا أراضيه واستقروا فيها، علمًا أنّ الجيش اللبناني تمكّن من ضبط الوضع واستعادة المبادرة في تلك المنطقة منذ البداية ولمَّا يزل. وقد شُحنت هذه المقالات بأسلوب التهويل، عبر التحدث عن احتمال حصول مجازر في القرى الحدودية، نتيجة دخول الإرهابيين إليها وعدم قدرة الجيش على صدّ هذه المحاولات، وعجز الحكومة اللبنانية عن حماية مواطنيها.

ثالثًا: دوافع استخدام المصطلح في الإعلام والمصادر المفتوحة وخلفياته

بدأ تداول المصطلح من خلال وسائل الإعلام كغيره من المفردات الصحافية والإعلامية، لتوصيف حالة سياسية أو أمنيّة أو اجتماعية أو اقتصادية…إلخ. فالإعلام في مختلف وجوهه، هو الممرّ الإجباري لمخاطبة العقول والتأثير فيها سلبًا أو إيجابًا، وهنا تتمّ إساءة استعماله من قبل إعلاميين ومفكرين ومحللين، عن قصد أو غير قصد[24]، لتحقيق غايات وأهداف ومصالح متنوّعة لدول أو مؤسّسات، أو هيئات، أو أشخاص، …إلخ.

إنّ هذا العصر هو عصر المعلومات والعولمة والاتصال والتواصل والتفاعل، إذ تمّ تشبيه العالم بالقرية الكونية الواحدة، التي ينتقل فيها الخبر والمعلومة بين سكانها بسرعةٍ قياسية، ويتغلغل في فكرهم ومشاعرهم، ليكوّن الرأي العام، الذي إذا ما تمّ شحنه وتحريضه وتوجيه طاقاته إلى نقطة وهدف معيّنين، ينجح بكلّ تأكيد في الوصول إليهما، وتصبح مفاعيله وتأثيراته شبيهة بقصة حصان طروادة. وتتعقّد الخيارات الصعبة في العالم إزاء التمايزات للعولمة الجديدة، والتي تتولّد عناصرها المتداخلة يومًا بعد آخر، بين تمركزات الاستقطاب العالمي وتشظّيات الأطراف، وما رافق ذلك من عمليات اختراق واسعة النطاق لكل البنى أو البنيات التاريخية والقومية والجغرافية والديموغرافية والاجتماعية في العالم أجمع. ولقد وصّف الدكتور سيّار الجميل العولمة في كتابه “العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الأوسط”، بأنّه “هناك قارب كبير في الشمال يتحرّك بسرعة فائقة في كل تحصيناته وقوّة مداه ودقّة آليّاته، وشجرة باسقة في الجنوب تمتدّ جذورها قويّة في الأرض، والإعصار يسقط أوراقها، ويكسّر غصونها ومن المرعب أن يتصوّر المرء اقتلاعها”[25].

إنّ انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1990، ودخول العالم مرحلةً جديدة من العلاقات الدولية، أدى إلى تغيير التحالفات ومراكز القوة، وترافق ذلك مع ثورة لا مثيل لها في تقنيات الاتصال. ومع هذا الوضع المستجدّ، بدأ استخدام الإعلام والمصادر المفتوحة من قبل الأفراد والجماعات والمنظمات والمؤسّسات على نطاق واسع، واختلفت الدوافع والخلفيات والحجج في الاستعانة بوسائل الميديا، من دوافع تعليمية وتثقيفية وترفيهية إلى تجارية وتسويقية وإعلامية وإعلانية…إلخ. لكنّ الأخطر منها والأسوأ، هي الدوافع السياسية والعقائدية والدينية التي جلبت الويلات والمآسي للبلدان النامية والفقيرة. وهنا، تمّ تضليل عقول الشعوب المستهدفة بحملات إعلامية، ركّزت على غسل الأفكار والآراء لإظهارها بصورة مغايرة، تؤدّي إلى خدمة مصالح أصحاب هذه الدوافع وتتماشى مع الأهداف والخطط المرسومة.

أصبح للدول والجهّات التي تملك وسائل إعلام قوية وضخمة وعملاقة، القدرة على السيطرة في مناطق عديدة من العالم والتأثير فيها، وعلى وجه الخصوص في منطقة الشرق الأوسط التي تمتاز عن غيرها من المناطق، بمعاناتها أزمات وحروب وصراعات دينية وسياسية وعقائدية ممتدّة عبر التاريخ، إلى جانب الصراع العربي- الإسرائيلي الذي بدأ منذ العام 1948 ولا يزال، مع نشوء الكيان الإسرائيلي. كما أنّ توزّع الجماعات اليهودية في دولٍ حول العالم، وامتلاكها القدرات الاقتصادية الهائلة أينما حلّت، جعلت من هذه الجماعات “لوبيات” تتحكّم بالعديد من وسائل الإعلام ومراكز الدراسات التي سخّرتها لخدمة العدو الإسرائيلي، وتثبيت دعائم كيانه الغاصب على أرض فلسطين المحتلّة، وذلك من خلال العمل على إضعاف الدول العربية المحيطة بهذا الكيان، باستغلال أوضاعها الاقتصادية والمعيشية الصعبة، وقضايا الحريات والديمقراطية، بالإضافة إلى فساد بعض النخب الحاكمة في هذه الدول.

انطلقت شرارة مرحلة ما سمّي بالربيع العربي في أواخر العام 2010 في دولة تونس، وبدأت تنتقل من دولة عربية إلى أخرى، كانتقال النار في الهشيم. وكان الكل شاهدًا في حينه على الدور الذي أدتّه المنظومات الإعلامية، إقليميًا ودوليًا، في تأجيج العواطف وإثارة النعرات والتحريض على هدم مؤسّسات هذه الدول، بهدف إسقاط الأنظمة واستبدالها، وذلك في إطار مفهوم ما سمّي بالجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة.

وبالعودة إلى فترة ما قبل الربيع العربي، نلاحظ وجود عمليات بث الأفكار التعبوية الممنهجة التي سبقت الحرب الإعلامية على دول هذا الربيع. فمنذ منتصف العام 2008، بدأ العديد من وسائل الإعلام، بعرض أفلام وثائقية عن الثورات التي اصطلح على تسميتها بالثورات الملوّنة في الدول الفاشلة، إذ كانت الرسالة من هذه المواد الإعلامية، تتمحور حول كيفية تمكّن الشعوب المظلومة والمقموعة في الدول الفقيرة والضعيفة وبالتالي المسمّاة فاشلة، من تغيير أسلوب عيشها الصعب من خلال الثورة وإسقاط النظام لتحقيق ظروف الحياة الكريمة. ويجدر بالإشارة إلى أنّ عملية تصنيف مؤشّر الدول الفاشلة ونشره، بدأت كما ذكرنا سابقًا في سياق الدراسة، قبل انطلاق مرحلة الأزمات والتغيير في بعض الدول العربية بحوالى الخمس سنوات، ولا تزال مستمرة لغاية تاريخه.

رابعًا: حروب الجيل الرابع غير المتماثلة وارتباطها بالدولة الفاشلة.

كانت الحروب التقليديّة تتميّز بوجود أطراف نزاع وتحالفات، لكنّ هذه الحروب تحصل في نهاية الأمر بين جيوش لديها زيُّها العسكري الموحّد والأعلام والرايات الخاصة بها، وتستعمل قدرات تسليحية ضخمة من طائرات ودبابات ومدافع وسفن حربية وغيرها. هذا كله يحدث لتأمين عبور حدود الدولة المستهدفة بهدف الاستيلاء على مناطق أو أسواق لتصريف المنتجات، أو احتلال الدولة بأكملها لأسباب سياسية وعقائدية وغيرها. أمّا في الوقت الحالي، فقد تغيّرت الحروب ومفاهيمها لتصبح حروبًا تستخدم المعلومات والإعلام والعمليات النفسية المتداخلة مع بعضها البعض، والتي تستهدف وحدة المجتمع الذي أنتج القوّة العسكرية. وتعتبر عمليات المعلومات على المستوى الاستراتيجي، وسيلةً من وسائل القوّة التي تستعملها الدول لدعم جهودها الديبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، في تحقيق أهدافها وغاياتها ومصالحها. فإنّ توسّع بيئة المعلومات وتطور التكنولوجيا على الصعيد العالمي، مكّن الأخبار والتحاليل والتقارير…إلخ، المتداولة في المصادر المفتوحة، من التأثير السريع والفعّال في الرأي العام وفي القرارات المتعلقة بالعمليات العسكرية.

ومنذ تسعينيّات القرن الماضي، أي خلال العشرين عامًا الماضية أو أكثر، تغيّر نمط الحروب التقليدية وأسلوبها، وأصبحت قليلة الحدوث، ليبدأ نسبيًا الاستغناء تدريجيًّا عن القوات البرّية بسبب الخسائر البشرية التي تضغط على الحكومات، خصوصًا في ظل التوسّع الديموغرافي وانتشار الأسلحة بأيدي السكان، ونموّ العقائد الإيديولوجية التي يستحيل ضبطها أو قمعها من قبل الجيوش النظامية. وقد أصبح رائجًا في عصرنا الحاضر مفهوم الجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة، الذي يعتمد طرقًا وأساليب غير تقليدية لحسم المعارك وتحقيق النصر، تختلف بشكل جذري وجوهري عن تلك التي تُعتمد في الحروب الكلاسيكية. فأساس هذا النوع من الحروب، يرتكز على سياسة إكراه الخصم المتمثّل بدولة أو نظام حكم أو شعب على قبول إرادة العدو، وبالتالي اكتساب النفوذ وإملاء الشروط والطلبات.

إنّنا في وسط عصر الجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة، كما قال “الدكتور ماكس مانوارينغ”[26]، أستاذ مادة الاستراتيجية العسكرية في معهد الدراسات الاستراتيجية في كلية الحرب التابعة للجيش الأميركي خلال إحدى محاضراته[27]، لافتًا إلى أنّ الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز، أمر ضبّاطه بالأكاديمية العسكريّة في كراكاس العام 2005، بأن يتعلّموا ويتدربوا على هذا النوع من الحروب، وأن يصنعوا عقيدةً لمواجهتها. لذلك، ما يحدث ويجري الحديث عنه في هذا الوقت، ليس عبور القوات النظاميّة الحدود، وليس تدمير مؤسّسة عسكريّة أو القضاء على قدرة دولة أو أمّة، من خلال شنّ عملية هجومية عسكريّة نظامية عليها. بل الهدف، هو اعتماد أسلوب الإنهاك والتآكل البطيء لكن الثابت، لقوّة الدولة المستهدفة من أجل اكتساب النفوذ كما ذكرنا، ومن ثمّ تحقيق الهدف المركزي والحقيقي المتمثّل بكسر إرادة هذه الدولة بأقل تكلفة بشرية ومادية على المخطّط. والوصول إلى نقطة التأثير في العدو في هذا النوع من الحروب، يحتاج إلى الاستعانة بقوات عسكريّة غير نظاميّة، من الممكن أن تكون مكوّنة من النساء والأطفال في بعض الأحيان. فالفوضى الموجّهة هي السلاح الرئيس في هذا المجال، وليست قوّة النيران الناتجة عن الترسانات العسكرية. وعلى سبيل المثال لا الحصر، الذي أسقط جدار برلين ليس الدبابات أو المدفعية، بل الوضع الاقتصادي الصعب في ألمانيا الشرقية. لهذا من المفترض فهم هذا النوع من الحروب، الذي عادة ما يعبّر عنه بمصطلح “زعزعة الاستقرار”، ومواجهته بالعديد من الحلول.

تتجلّى زعزعة الاستقرار، بصور ومشاهد ومظاهر متنوعة، غالبًا ما تكون حميدة في الشكل إنّما ليس في المضمون، ويجب أن ينفذها مواطنون من الدولة المستهدفة، عبر التدرّج من التظاهر السلمي في بادئ الأمر، إلى المظاهرات والاعتصامات الصاخبة، ثمّ الى أعمال عنف تؤدّي إلى التمرّد والعصيان على هيبة الدولة، وصولًا إلى خلق فكرة “الدولة الفاشلة”[28]. وهنا، يبرز دور الإعلام طوال هذه المراحل، بالإشارة إلى أنّ هذه الدولة هي في الطريق نحو الفشل. وفي بعض الدول التي يتزعزع استقرارها بشكل كبير، يتحوّل النزاع إلى أعمال عسكرية ويصبح جزء معتبر من الدولة غير خاضع لسلطتها، وهنا يتمّ استخدام مصطلح “الإقليم غير المحكوم”، كمبرر لاتهام الدولة بالفشل.

أمّا في المرحلة الأخيرة من حروب الجيل الرابع، فيتكوّن المولود الجديد المسمّى “الدولة الفاشلة” بصورةٍ كاملة، ما يكفل تأمين الأعذار من قبل الجهات المستفيدة للتدخل في شؤون هذه الدولة والسيطرة عليها، ولكنّ الشرط الأساس في ذلك كلّه هو منع تلاشي كيان الدولة بشكلٍ نهائي، إذ يجب ألّا تزول المؤسّسات الحكومية، والسياسيّة والعسكريّة، وإلّا تصبح الدولة ساحة للجرائم والفوضى، ويصبح التحكّم فيها صعبًا لا بل مستحيلًا، وبالتالي لا يستطيع العدو إنجاز ما يطمح إليه.

إذًا، الحرب سواء كانت قاتلة أو غير قاتلة هي الإكراه، وعملية الوصول إلى الدولة الفاشلة تتم بخطوات بطيئة وهادئة ولمدة كافية، باستخدام مواطني الدولة المستهدفة والطابور الخامس[29]، وفي غياب الوعي الوطني العام، وحكمة القائمين على السلطة، تمضي الدولة إلى هاوية السقوط الحتمي.

الخاتمة

يختلف حال فشل الدول بين دولةٍ وأخرى وبين حالةٍ وأخرى، إذ إنّ هناك دولًا ضعيفة إلى حد الفشل على شكل الصومال وأفغانستان، فيما هناك دولٌ أطلق عليها صفة الفشل وهي بعيدة منها كلّ البعد، وهذا ما يشير إلى وجود مخطّطات معدّة سلفًا لتحويلها إلى دولٍ فاشلة، وذلك عبر استخدام وسائل مختلفة، لتأليب الرأي العام المحلي والدولي ضدّها، منها الضخ الإعلامي المركّز بمختلف آلياته وأساليبه.

 بدأ تداول مصطلح الدولة الفاشلة في وسائل الإعلام والصحافة المكتوبة على وجه الخصوص، ولم ينشأ في أروقة القانون ودوائر القرار، وهذا ما يعكس حالة الغموض التي تخيّم على هذا المصطلح وتحديدًا لناحية تصنيف الدول وإلصاق تهمة الفشل بها، والأهداف الملتبسة القابعة خلفه، إذ يلفت بعض المحلّلين إلى أنّ استخدام الإعلام أولًا، يعود لكونه الأكثر فعالية وسرعة في الانتشار، والأقل كلفة بين سائر طرق التدخل. ففي مراقبة أحوال دول الربيع العربي وتحليل أوضاعها، يتبيّن سطوة منظومات إعلامية عملت على تقويض أمن هذه الدول، من خلال استخدام وسائل “الميديا” التحريضيّة والتضليليّة، وتركيزها على تناول مصطلحات، لها وقعٌ سيّىء على الجماهير والرأي العام، وتسهم بشكل فاعل في تأجيج أعمال الشغب واستهداف المؤسّسات الحكوميّة.

أمّا حروب الجيل الرابع غير المتماثلة، فهي من أخطر الحروب وأعقدها التي تستهدف الدول ومجتمعاتها، إذ تستلزم أساليب وتقنيات خاصة، إضافة إلى تدريب مكثف على مواجهة وسائطها، والى مستوى عال من الوعي الشعبي، وذلك كونها تشنّ عبر الإعلام والمصادر المفتوحة لتصل لأفراد وشرائح المجتمع كافة. فيتم تحريض شعوب الدول المستهدفة لدفعها نحو التمرد وفقدان الثقة بالأنظمة التي تحكمها، تمهيدًا لزعزعة الأمن والاستقرار ونشر ما يسمّى بـ”الفوضى الخلّاقة”.

إنّ دولًا قويّة وجهات فاعلة في العالم، تستخدم القوّة و”السلطة الإعلامية” إذا صحّ التعبير، للتدخّل في شؤون الدول الأخرى بهدف تحقيق مصالح سياسية واقتصادية على وجه الخصوص، عبر مجهودات مختلفة، منها اتّهام الدول بالفشل. من هنا، على المجتمع الدولي التوصّل إلى تعريف قانوني واضح ومتّفق عليه للدولة المسمّاة فاشلة، وذلك لتحديد الظروف والشروط التي تستوجب من هذا المجتمع التدخل في شؤون هذه الدولة، بهدف إعادتها من جديد إلى وضعها الطبيعي. أمّا على صعيد المجتمع اللبناني، فمن جهة أولى، يجب نشر الوعي من قبل الوزارات المختصّة كلّ في ما خصّه (الإعلام، الثقافة، الداخلية، العدل، التربية والتعليم العالي…إلخ)، حول مخاطر استخدام مصطلح الدولة الفاشلة بشكلٍ خاطئ من قبل المحلّلين والمفكرين والإعلاميين…إلخ، وتوضيح أسباب نشأة المصطلح وتداوله، ومن هي الجهات التي تقف خلفه وتستفيد منه. ومن جهة ثانية، تحصين الرأي العام المحلي لمواجهة أخطار الإعلام المشبوه، وعدم الانجرار خلف حملات ترويج المصطلح بصورة مشوّهة ولا تعبّر عن الواقع، وذلك منعًا لحصول تداعيات سلبية من شأنها الإضرار بهيبة الدولة ودورها والانتظام العام في البلاد، بالإضافة إلى دحض ما يشاع في وسائل الإعلام ومراكز الدراسات الموجّهة، من أنّ الدول الفاشلة قائمة في دول العالم الثالث فقط، ومن أنّ الأزمات والمعوقات الاقتصادية هي سبب لتكون الدولة فاشلة، والتركيز في الوقت عينه على إظهار مؤشّرات الدول الفاشلة في الدول الناجحة.

لذلك، يجب إيلاء موضوع العمليات الإعلامية – النفسية الأهمية اللازمة، لناحية معرفة أهداف العدو وفهم الأساليب والتقنيات التي يستخدمها ضدّ الوطن ومؤسّساته السياسية والعسكرية والأمنية، وكيفية مواجهتها في أيّ ظرف من الظروف من خلال تضمين مناهج التعليم والتوعية، كيفية التعاطي والتعامل مع مفهوم الجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة، والاستعانة بخبراء في مجالات علوم النفس والاجتماع والإعلام، وذلك لإرساء مفاهيم حديثة وإعداد مراجع تعليمية قيّمة على مستوى المواجهة والتصدّي لهذه العمليات الحربية غير التقليدية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى