أميركا: حصاد الأبرياء بين ثقافة العنف والحرية الفردية د.منذر سليمان
ثقافة العنف ترعرت في هوليوود وتمددت الى مراكز التعليم. الناجون من الاعتداء المسلح الأحدث على مدرسة ثانوية يقودون حملة ضد حيازة السلاح الناري والسلاح الاوتوماتيكي تحديداً، والسياسيون يبدون تعاطفهم “الانساني” مع الضحايا والناجين مع التنصل من أدنى التزام حقيقي باتخاذ اجراءات فعالة .
هي جملة تلخص المشهد الراهن بتناقضاته بين غالبية الشعب الأميركي وسياسييه، ممثلين بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، على خلفية احجام واعية ومنظمة من المسؤولين في الحزبين استصدار قوانين جديدة تحد من التسهيلات اليسيرة لاقتناء السلاح؛ وتتكرر المأساة بمعدل حادث إطلاق نار كل أسبوع في مدارس أميركا، والحادث الأخير في ولاية فلوريدا هو السادس ضد حرم تعليمي يودي بحياة عدة أفراد دفعة واحدة منذ مطلع العام الجاري.
في البحث عن أسباب عجز الدولة الأقوى عسكرياً المحافظة على حرمة مراكز التعليم تبرز مصالح اللوبيات الخاصة، لا سيما منظمة الأسلحة الوطنية – تأسست عام 1871، وامتداداتها داخل أوساط السياسيين من كافة الأطياف والمشارب، وما تقدمه من تبرعات مالية سخية للمرشحين من الحزبين؛ وتتلطى هي ومؤيديها خلف نصوص دستورية باتت في أمسّ الحاجة للمراجعة والتعديل لمواكبة متطلبات العصر.
ظاهرة ترابط انتشار الأسلحة مع ارتفاع معدلات الجريمة والعنف المسلح في أميركا تناولها، ولا يزال، اخصائيون وأكاديميون ساهمت وسائل الإعلام المتعددة في نشر الوعي “النظري” حولها؛ دون معالجة حقيقية لما يطالب به الشعب الأميركي منذ عقود طويلة: ضرورة تقنين الحصول على السلاح الناري وتشديد القيود على تداوله. بل يصوّب جام غضبه على ممثليه لعدم توفر الرغبة أو النية لديهم للسيطرة على الظاهرة.
بالمقارنة فإن قوانين تجريم اقتناء بعض المخدرات والعقاقير في أميركا تزداد سبل مكافحتها انتشاراً ونزعة متسرعة لإيداع “المتورطين” في السجن، رغم أن نسبة الوفيات منها لا تصيب إلا مستخدميها؛ بينما إطلاق النار وحصد أرواح بالعشرات لا تتعدى عقوبتها القانونية محاسبة الجاني، أن ثبت عليه، وغالباً ما ينسب للمعتدي “الأبيض” بأنه مختل عقلياً. أما “المتورطون،” من مراكز مبيعات ومعارض أسلحة وتوفير تسهيلات ميدانية لا تنطبق عليهم ذات التهمة، بل هم خارج الشبهة والإدانة.
في المفارقات المبكيات، احتضنت مدينة الملاهي لاس فيغاس، قبل بضعة أسابيع، معرضاّ ضخماً للأسلحة أعطي صفة “العالمي،” شارك فيه كبار شركات تصنيع الأسلحة الفردية، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل صناعات الأسلحة “الإسرائيلية،” وشركة تصنيع دولية تتخذ من دولة الإمارات مقراَ لها تصنع مسدسات نصف آلية، كاراكال. كما شارك ما يربو على 60،000 من تجار بيع الأسلحة النارية المنتشرين في الولايات المتحدة. المثير أيضاً حضور نجل الرئيس البكر، دونالد ترامب الإبن، أروقة المعرض متجولاً بصحبة طاقم حراسة رسمي، سمح لمن يشاء التقرب منه والتحدث معه وأخذ الصور التذكارية أيضاً.
ثقافة الأسلحة النارية
الاستيلاء على أراضي وممتلكات سكان أميركا الأصليين وثرواتهم الطبيعية تم بواسطة القوة النارية والاغتصاب والسرقة والإبادة الجماعية، رافقها انتشار الأسلحة آنذاك بأيدي المستعمِرين البيض؛ مما حفز أركان الدولة الوليدة “منح” رعاياها المستعمِرين “حق” التسلح وتقنين النهب المنظم لضمان الولاء السياسي.
الصيغة الدستورية الأولى للدولة أجري عليها جملة تعديلات لتعزيز سيطرة العنصر الاوروبي، بلغ عددها 10 تعديلات في البداية، أبرزها التعديل الثاني الصادر في عام 1791، صاغه جيمس ماديسون، استناداً لنص مشابه ورد في “لائحة الحقوق المدنية” الإنكليزية، لعام 1689. جاء في نص التعديل “.. لا يجوز التعرض لحق الناس في اقتناء الأسلحة وحملها.” وأضحت منذئذ “نصاً مقدساً” للتيارات اليمينية والمحافظة وشركات تصنيع الأسلحة.
انتهت الحرب الأهلية الأميركية رسمياً عام 1865، وسرعان ما تم شرعنة انتشار وحمل السلاح بتأسيس رابطة أو منظمة الأسلحة الوطنية، 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1871، اتخذت مدينة نيويورك مقراً لها. وبعد نحو شهرين من الزمن، أنشأت المنظمة فرعاً خاصاً لها، 7 شباط/فبراير 1872، محور مهامه الضغط على الكونغرس لاستصدار قوانين وتشريعات “تحفظ مصالحها.”
جسدت المنظمة الوطنية طابعها السياسي الصرف وأجندتها الحقيقية في خطوة مميزة عام 1975 بتأسيس “معهد العمل التشريعي،” كذراع ذو نزعة أكاديمية من أذرع لوبيات الضغوط على الكونغرس، لتعزيز أجندتها الرئيسة في ضمان سيرورة الاتجار بالأسلحة؛ مهمته الحقيقية هي لضمان عدم إقدام الكونغرس استصدار قوانين تحد أو تفرض قيوداً على “حق المواطنين بحمل السلاح.”
مع تصاعد موجات العنف المسلح في أميركا، واستشراء آفة المخدرات والعقاقير، اضطر الكونغرس لإصدار قانون “مؤقت” عام 1994 يحظر التصنيع واستخدام “الأسلحة النارية شبه الآلية والأسلحة الهجومية” لمدة 10 سنوات؛ انتهت صلاحيته بالفعل عام 2004.
في تلك الأثناء وقعت مجزرة في مدرسة كولومباين الثانوية في ضواحي مدينة دنفر بولاية كولورادو، 20 نيسان/ابريل 1999، ذهب ضحيتها 15 طالباً وجرح 24 آخرين. سارعت إدارة الرئيس بيل كلينتون للتحرك سويةً مع الكونغرس لمعالجة تسيّب الأسلحة، وكُلف نائب الرئيس آنذاك آل غور بالعمل الدؤوب مع زملائه السابقين في الكونغرس لاستصدار قانون يحد من انتشار الأسلحة. الكونغرس أفشل المحاولة، بحكم ضغوط المنظمة الوطنية وأعوانها.
أعلاه يشكل مدخلاً على “تواطؤ” السلطتين التنفيذية والتشريعية في إدارة الظهر لإجراءات وتدابير حقيقية تحد من غول انتشار السلاح وارتفاع معدلات الضحايا. أما السلطة القضائية فليست بأفضل حال هي الأخرى خاصة بعدما ضمن التيار اليميني والمحافظ سيطرة الأغلبية على قرارات المحكمة منذ بضعة عقود خلت، ومن المرجح استمرار اختلال التوازن لصالحه لجيل أو أكثر.
شكل عام 2008 شبه إجماع بين أخصائيي العلوم الاجتماعية والأجهزة الإعلامية، على السواء، كنقطة فاصلة في الجدل المستمر حول اقتناء السلاح، وميل القرارات والتشريعات الرئيسة لصالح قطب اليمين المحافظ. إذ صوتت المحكمة العليا بالأغلبية البسيطة على “حق الأفراد / المواطنين حمل السلاح في كافة المدن والولايات الأميركية،” دون استثناء.
علقت يومية واشنطن بوست على قرار المحكمة العليا بأنه يعد “نصراً لمؤيدي حمل السلاح طال انتظاره،” 29 حزيران/يونيو 2010. وأضافت أن القرار هو “الأول من نوعه تعتبر فيه المحكمة العليا أن للفرد حق بإقتناء السلاح (بتفسير أوسع) من الحق المتعلق بالخدمة العسكرية.”
يشار إلى أن بعض المدن الكبرى والولايات، قبل ذلك التاريخ، كانت تفرض حظراً على حمل السلاح، بدءاً بحظرٍ جزئي على أنواع معينة تدرّج إلى حظر شامل على كافة الأسلحة الهجومية، أبرزها كانت مدينة شيكاغو التي طبقت “حظراً تاريخياً” على حمل الأسلحة منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي.
ونقلت واشنطن بوست تعليقاً لعمدة مدينة شيكاغو آنذاك، ريتشارد ديلي، قوله إن من شأن قرار المحكمة العليا ابطال مفعول قوانين وقيود سارية منذ 28 عاماً؛ وفتح باب حمل السلاح على مصراعيه.
مجتمع مدجج بالسلاح
يجد المرء صعوبة لمقاربة عدد الأسلحة الفردية المنتشرة في عموم الولايات المتحدة، والتي تقدرها المنظمات الدولية للحد من انتشار الأسلحة بمئات الملايين “.. تكفي لتسليح كل رجل وامرأة وطفل في أميركا .. تسندها مخازن ذخيرة متنوعة تقدر بعدة آلاف مليارات الطلقات.” التقديرات الأميركية المحافظة “ترجح” امتلاك المواطنين لما ينوف عن 300 مليون قطعة،” مما يعني أن لكل مائة مواطن هناك 90 قطعة سلاح.
أحدث الإحصائيات الأميركية حول انتشار السلاح أجراها معهد “بيو” المرموق، ونشرها في 22 حزيران/يونيو 2017، حملت حقائق صادمة لمن يحسن قراءة الإحصائيات من أخصائيي العلوم الإجتماعية: فئة السود (من أصول إفريقية) وشرائح ذوي الدخل المحدود هي الأكثر عرضة للتهديد بالسلاح؛ 67% من حملة السلاح اشتروه بدافع الحماية الشخصية؛ خارطة توزيع السلاح 46% هم من سكان المناطق الريفية، مقابل 28% يقطنون ضواحي المدن الكبرى، و19% من سكان المدن؛ و 19% من المجموع العام هم أعضاء فاعلين في “منظمة الأسلحة الوطنية،” مناصفة تقريباً بين الجنسين.
من أبرز الإحصائيات الصادمة شعور نحو 79% من عموم الشعب اقتناء وحمل السلاح مواكباً لمتطلبات الحرية الفردية؛ غالبية الرجال من حملة السلاح هم من البيض،48%؛ النسبة الأعلى بينهم هي من فئة الدخل العالي، ما يفوق 100 ألف دولار سنوياً؛ 29% من أصحاب الدخل العالي اعضاء فاعلين في منظمة الأسلحة الوطنية.
أما سطوة ونفوذ “منظمة السلاح الوطني” على الحياة السياسية الأميركية يعتقد نحو 44% من عموم الأميركيين أن لها اليد الطولى تمارسها بدقة متناهية على عموم الهيئات الحكومية ومسؤوليها على السواء. الأمر الذي يشرح للمتابع حقيقة دوافع السياسيين للعزوف عن تحدي “ما تريده المنظمة” حتى ولوعلى حساب السلامة العامة.
هل هناك ما يستدعي المنظمة للقلق من المستقبل السياسي، سؤال يطرح بجرأة نادرة في هذا الموسم من الانتخابات النصفية التي يرجح فيها تراجع تحالف المحافظين واعضاء الحزب الجمهوري في عدد من الولايات “الحاسمة،” ابرزها بنسلفانيا واوهايو وميتشيغان وويسكونسن. وإن تسنى لتحالف الليبراليين والديموقراطيين الفوز بأغلبية مقاعد مجالس الولايات الرئيسة، ربما سنشهد بعض التحول في صياغة قيود جديدة على حمل السلاح ظاهرها يحد من تغول الظاهرة وباطنها يحابي المنظمة ولو اضطرت لتقديم بعض التنازلات المرحلية لإمتصاص الغليان الشعبي.
أما على صعيد مجلسي الكونغرس، أن قدر للحزب الديموقراطي الفوز بأغلبية الأصوات في أحد المجلسين، فهناك حق النقض للرئيس ترامب الذي سيمارسه دون أدنى وجل ليقينه أن خصومه في الكونغرس غير قادرين على حشد نسبة الثلثين لإبطال مفعول قراره. كما لا يرجح إدراج مسألة تشديد القيود والإجراءات على اقتناء وحمل السلاح من قبل السياسيين الجدد والحاليين، اتساقاً مع وضع مشابه إبان ولاية الرئيس اوباما وسيطرة حزبه الديموقراطي على مجلسي الكونغرس آنذاك، والذين فشلوا في اصدار قانون خاص بهذه المسألة.
وأد المعارضة
سارع السياسيون من الحزبين والرئيس ترامب إلى استغلال مأساة ضحايا الاعتداء المسلح وتجييرها لخدمة أجندة لا تمس عصب منظمة السلحة الوطنية، أو شركات السلاح، كحد أدنى، بتحويل الأنظار إلى ضرورة وجود أجهزة الشرطة في المرافق التعليمية.
من بين المفارقات أيضاً، انضمام الرئيس ترامب لدعوة المنظمة الوطنية بأن صيغة الحل لدرء تكرار مجازر المدارس والمعاهد التعليمية تكمن في “تسليح الأطقم التعليمية،” رجالاً ونساءً. تجلى ذلك في حضور الرئيس ترامب ونائبه مايك بينس مؤتمراً “للجنة العمل السياسي المحافظة – سي باك” شاركت في رعايته منظمة الأسلحة الوطنية، منتصف الأسبوع الحالي، للتأكيد على “مقدسات” المنظمة وعدم المساس بها.
ليست هي المرة الأولى التي تدعو فيها المنظمة المذكورة لعسكرة المدارس، بل رافقت الدعوة حالات الاعتداءات المسلحة ضد عدد من المدارس، ولم ترى النور، لكنها أرست أرضية جدل سياسي جديدة تعيب على المؤسسات التعليمية فقدانها للأمن الذي “تشهده مؤسسات أخرى مثل المصارف المالية والمطارات وملاعب الكرة ..” وفق وصف رئيس الجمعية واين لا بيير.
بعض المنابر “الليبرالية” اشارت إلى “غياب وقوع مجازر جماعية لمعاهد تعليمية أغلبيتها من طلبة الأقليات العرقية،” مقارنة بالحادث الأخير في ولاية فلوريدا ضحاياه من “الطلبة البيض يقطنون ضواحي ميسورة.” بيد أن حقيقة الأمر معاناة شبه يومية يمر بها سكان مناطق الدخل المحدود وأحياء الأقليات من حوادث إطلاق نار لا تنقطع.
ودقت يومية واشنطن بوست، 23 شباط الجاري، ناقوس خطر العنصرية في حال تم تنفيذ تسليح طواقم التعليم أن كان ذلك سيشمل “كافة” اعضاء الهيئات التدريسية أم سيقصي بعضهم من الأقليات العرقية، والسود تحديداً، والذين “يواجهون خطراً متزايداً نتيجة حملهم السلاح،” ولو بصورة شرعية ومرخصة.
ودلت الصحيفة على ذلك بحادث أطلاق رجال الشرطة النار على عامل (اسود) في كافتيريا مدرسة عمومية في مدينة سانت بول بولاية منيسوتا والذي أوضح للشرطة قبل الحادث بأنه يحمل قطعة سلاح مرخصة.
اما تداعيات حمل السلاح على طلبة الأقليات من قبل مدرسين عنصريين فهي حقيقة واقعة لا يشوبها أدى شك خاصة بعد التيقن من سلسلة حوادث شبه يومية يتعرض فيها “السود” لإهانة وتوبيخ على ايدي “مدرسيهم.”
يشار في هذا الصدد إلى دراسة بحثية أجرتها جامعة ييل العريقة مؤخراً حول ظاهرة العنصرية اوجزت فيها أن “.. التصرف العنصري الضمني ضد الطلبة السود يرسم ملامح كيفية تجاوب المدرسين نحوهم؛” أي أن “التعصب الضمني” يشبه حركة الرياح التي لا يمكن رؤيتها لكن يمكننا تحسسها. واستدركت أنه لا ينبغي الاستنتاج تلقائياً بجهوزية المدرسين البيض اللجوء لإطلاق النار على الطلبة السود، لكن “ينبغي أخذ ذلك بعين الإعتبار لكيفية إنزال أجراءات تأديبية أو عقابية بالطلبة السود.”
السلطات الأميركية لم تتسامح يوماً مع حصول “السود” أفراداً ومجتمعين على أسلحة للخشية من استهداف أجهزة الشرطة ورجالاتها. وابرز دليل على ذلك فترة زمنية قصيرة خلال بروز حركات مناهضة الحرب على فييتنام، بين عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حينما لجأت بعض المنظمات ومنها “حركة الفهود السود” إلى الدفاع عن نفسها وأحيائها بالتزود بقطع السلاح؛ ولم تتورع عن اختلاق المبررات لشن حملة اغتيالات فردية بل ارتكاب مجازر جماعية ضد السود تحديداً، كما شهدت بعض أحياء مدينة فيلادلفيا التي دب فيها حريق أودى بحياة العشرات والتهام النيران لسلسلة من المباني المتجاورة، دون أن يتحمل أحدهم مسؤولية قرار إطلاق النار وأضرام النيران.
وعليه، لا يرجح أن تلقى دعوة المنظمة الوطنية واركان أدارة الرئيس ترامب، ممثلة بوزيرة التربية بيتسي دي فوس، آذاناً صاغية بين أجهزة الشرطة؛ وربما سيتم التوصل “لحل وسط” بفرض حراسات مسلحة على المدارس تستنزف ميزانيات التربية المحدودة اصلاً بحجة حماية السلامة العامة.