الاقتصاد الغربي واجتذاب الكفاءات
حميدي العبدالله
دائماً كان النمو الاقتصادي الغربي قائماً على استغلال موارد خارجية، سواء كانت مادية أو بشرية. في القرن التاسع عشر والقرن العشرين كانت كل حروب هذين القرنين مكرسة للاستيلاء على الثروات والمواد الأولية والوصول إلى الأسواق في دول ومناطق مثل الهند وإفريقيا والأميركيتين وكل آسيا بما في ذلك كبري بلدانها وهي الصين. وكان لنهب ثروات كل دول القارات الأربع التي خضعت للاحتلال الدور الأكبر في ازدهار ونمو اقتصادات الدول المتقدمة، وتحديداً أوروبا واليابان والولايات المتحدة وكندا، ولولا نهب ثروات إفريقيا وآسيا والأميركيتين، وفتح أسواقها أمام المنتجات الغربية، لما حققت الاقتصادات الغربية، ما حققته من ازدهار اقتصادي، وليس صدفة أن يقول كارل ماركس أن الرأسمالية ولدت وجسمها ينضح دماً، وفي الحقيقة لم يكن يقصد ماركس بهذا القول، فقط استغلال عمال الدول الصناعية، والتي باتت دولاً متقدمة بفعل إرغام العمال على العمل أكثر من 16 ساعة يومياً، وتشغيل الأطفال والنساء بأجور أدنى من أجور العامل العادي، الأمر الذي عظم فائض القيمة وسرّع بوتيرة التراكم الرأسمالي، لم يكن يقصد ماركس بعبارته هذه فقط الاستغلال الموصوف الذي رصد أبشع صوره فريدريك أنجلس في كتابه أحوال الطبقة العاملة في بريطانيا، بل كان يقصد أيضاً استغلال شعوب العالم من خلال السيطرة على هذه الشعوب والاستيلاء على ثرواتها ومواردها الأولية وتسخيرها لخدمة الآلة الصناعية الغربية، وتحويل كل دول العالم إلى أسواق لتصريف نتائج مصانع الدول الصناعية .
اليوم تتغير أشكال استغلال شعوب العالم عن ما حدث سابقاً، وتتجاور آليات الاستغلال الجديدة مع الأساليب القديمة، أي نهب الثروات والاستيلاء على الموارد الأولية، والحفاظ على وضع يجعل دول الجنوب في وضع ارتباط تبعي مع دول الشمال الصناعية مع آليات استغلال جديدة، قائمة على مبدأ استقطاب الكفاءات وتوظيفها في خدمة الاقتصاد الغربي. الفرق الوحيد بين آليات الهيمنة القديمة والجديدة يكمن في أن الدول الصناعية لجأت إلى القوة العسكرية لإخضاع الدول المستهدفة والسيطرة على ثرواتها وأسواقها في السابق، في حين أن عملية نهب الكفاءات هي ثمرة تضافر عاملين أساسيين، الأول، الإغراءات التي تقدّم من قبل الحكومات الغربية للكفاءات في دول العالم النامي، والثاني، البيئة الطاردة في العالم النامي لهذه الكفاءات، سواء بسبب الحروب وعدم الاستقرار السياسي، أو بسبب الأجور المتدنية، أو بسبب غياب وجود اقتصاد متقدّم قادر على خلق فرص عمل تتناسب ومؤهلات الأيدي العاملة المتطورة والمؤهلة تقنياً. تمثّل كندا اليوم، عبر وادي السيليكون أنموذجاً لعملية استقطاب الكفاءات لبناء وتطوير اقتصادها عبر تعظيم عملية التراكم الرأسمالي من خلال الاستيلاء على فائض القيمة الذي تنتجه الكفاءات المنحدرة من دول نامية في الجنوب.
رئيس وزراء كندا «جوستن ترودو» أشاد بما أسماه «فوائد المهاجرين للصناعة المتعطشة للمواهب»، ويسعى إلى «جعل كندا دولة رائدة في مجال التكنولوجيا على مستوى العالم» على حد وصف صحيفة «واشنطن بوست»، ويراهن رئيس وزراء كندا من خلال حفز استقطاب الكفاءات على تطوير أداء الاقتصاد الكندي، الذي يواجه منافسة صعبة في الصناعات التقليدية، فيقول «تركيزنا لا ينصب إلى حد كبير على أن يكون الاقتصاد جيداً الأسبوع المقبل، بل ضمان أنه سيكون جيداً لعقد من الآن وللجيل المقبل».
ليست كندا وحدها التي تراهن على استقطاب الكفاءات من العالم الثالث لإنهاض وتطوير اقتصادها واعتمادها على هذه الكفاءات في زيادة تراكم رأسمالها عبر الاستيلاء على القيمة المضافة التي تنتجها الكفاءات المستقطبة من دول العالم الثالث، الولايات المتحدة ذاتها التي شهدت نمواً اقتصادياً كبيراً في عقد التسعينات من القرن الماضي، اعتمدت على هذه الكفاءات، فكان عماد وادي السيليكون هم المهندسون من أصول هندية، وفعلاً كان لما عرف باقتصاد المعرفة الدور الأعظم في تحقيق نمو اقتصادي في الولايات المتحدة طيلة عقد التسعينات، مكن هذا البلد من السيطرة على عجز موازناته، وتحقيق فائض، ساهم في كبح تنامي الدين الأميركي الداخلي والخارجي.
يمكن القول إن ألمانيا اليوم تعتمد السياسة ذاتها للحفاظ على معدلات نمو متقدمة في اقتصادها وتركز أكثر من أي دولة أوروبية على استقطاب الكفاءات، واستفادت كثيراً من اللا استقرار الناجم عن الحروب التي استهدفت مناطق في آسيا للوصول إلى هذه الغاية، ووضعت الجهات المسؤولة في ألمانيا خططاً لاستقدام حوالي 1.5 مليون من الكفاءات حتى العام 2023 وهذا ما يحتاجه الاقتصاد الألماني.
واضح مرة أخرى أن الدول الغربية حققت تقدمها من خلال الاستيلاء على ثروات بلدان الجنوب، واليوم تسعى للحفاظ على هذا التقدم من خلال الاستحواذ على كفاءات البلدان النامية.