استراتيجية محور المقاومة لصناعة الحرب والتسويات: ناصر قنديل
– تبدو استراتيجية واشنطن وتل أبيب المبنية على قرار ربط نزاع يمنع التسويات ويثبّت تجميد موازين القوى ويقطع الطريق على محور المقاومة لمواصلة خطّته على محورين رئيسيين، إكمال سيطرة الدولة السورية على كامل جغرافيتها، وتأمين اتصال راسخ ومستقر بين طهران وبيروت مروراً بدمشق وبغداد، مستندة إلى قراءة ما تسمّيانه العجز المتبادل عن تحمل كلفة المواجهة المباشرة والشاملة، بين جبهتي المواجهة. فاليقين لدى واشنطن وتل أبيب معلن، أن محور المقاومة وعلى رأسه إيران ومن خلفه روسيا لا يريد التورّط بالحرب بمثل ما لا تريد واشنطن وتل أبيب، لذلك تتواصل الاستفزازات ويتصاعد تخطّي الخطوط المحرجة في التصادم، ورفع النبرة، لوضع محور المقاومة بين خياري قبول ما تسمّيه واشنطن وتل أبيب قبول قواعد الاشتباك الجديدة، أو الذهاب للحرب. وقواعد الاشتباك الجديدة تعني ارتضاء إطلاق اليد «الإسرائيلية» في سورية، والتعايش مع كانتون كردي بحماية أميركية شرق الفرات، وكانتون سعودي قرب دمشق، وآخر أردني «إسرائيلي» جنوباً ورابع تركي شمالاً. وفي لبنان دخول التفاوض مع «إسرائيل» حول الخطوط الحدودية البرية والبحرية، والتفاوض مع واشنطن حول مكانة وسلاح حزب الله، والتساكن مع صيغة هشة للحدود السورية العراقية يتناوب المحوران عليها في السيطرة وفي القنص، وصولاً لأغلبيات مائعة في البرلمانيين العراقي واللبناني، لا يملك فيها أي من المحورين أغلبية ثابتة تتيح التحكم بالخيارات الإقليمية لكل من الدولتين. وفي الحصيلة تحوّل قرار اعتبار القدس عاصمة لـ«إسرائيل» أمراً واقعاً لا بدّ من التعايش معه .
– بعد دراسات ومشاورات عميقة ومكثفة وممتدة لأسابيع قرّرت قيادة محور المقاومة رفض التعايش مع الاستراتيجية الأميركية «الإسرائيلية» الجديدة، ولو كانت الكلفة الذهاب للحرب، وصارحت القيادة الروسية بما توصلت إليه، بانتظار سماع الموقف الروسي النهائي، الذي لم يختلف جوهرياً عن الخلاصة النهائية لمحور المقاومة، بتشخيص طبيعة الاستراتيجية الأميركية وأهدافها، واعتبارها إضعاف روسيا في طليعة الاستهدافات. وكان القرار الروسي واضحاً بعدم الدخول على خط المواجهة الميدانية مباشرة منعاً لانزلاق سريع نحو مواجهة أوسع وحفاظاً على خطوط التراجع أمام الأميركيين، لكن مع تقديم الدعم اللازم لمحور المقاومة والتوافق على ضمّ «إسرائيل» لعنوان المواجهة كأداة للاستراتيجية الأميركية الجديدة.
– ترى قيادة محور المقاومة أن الخاصرتين الرخوتين في المحور الأميركي «الإسرائيلي» تتمثل في تصاعد الاشتباك التركي الكردي، شمال سورية، وأن هذا التحدّي الذي يواجه محور واشنطن تل أبيب أعقد من بقائه تحت السيطرة، ويقدّم فرصة جذب وشدّ لمحور المقاومة، لوضع الأكراد بين مطرقة التهديد التركي والتخلّي الأميركي، في عنوان مصير عفرين، مدينة نصف المليون كردي، والتي لا كيان كردي ولا معنويات كردية، إذا دخلها الأتراك، للوصل لتفاهم يضمن نقل عفرين لسلطة الدولة السورية، وفتح الطريق لمضمون جديد في العلاقة مع الأكراد يضعهم مناصفة بين العباءة الأميركية وعباءة محور المقاومة، وعلى ضفة موازية اعتماد لغة العصا والجزرة مع الأتراك لدفعهم لنقلة جديدة تشبه ما حصل بعد تحرير حلب وولادة مسار أستانة.
– تنطلق قيادة محور المقاومة من القناعة بتفوق قواها الميدانية على قدرة «إسرائيل» في الحرب الشاملة، ولكن أيضاً في المواجهات التكتيكية، ولذلك فإن التغيير الذي تريد واشنطن وتل أبيب فرضه في رسم قواعد اشتباك جديدة، يتيح لمحور المقاومة أن يحوّلها فرصاً لفرض قواعد جديدة معاكسة. وعناوين القوة هنا هي الدولة السورية والدولة اللبنانية، واحدة عسكرياً والثانية سياسياً، ولذلك كانت الإدارة الشجاعة والذكية للرئيس بشار الأسد لمعركة الأجواء السورية في مرحلة أولى وإسقاط طائرة الـ«إف 16» وهي تقصف من الأجواء اللبنانية في المرحلة الأخيرة، وكانت إدارة الرئيسين ميشال عون ونبيه بري وجذب الرئيس سعد الحريري إلى معسكرهما، لإدارة ذكية وشجاعة للمفاوضات مع وزير الخارجية الأميركية حول الثروة النفطية، ولذلك كان الموقف الحازم والمحسوب للسيد حسن نصرالله بتهديد «إسرائيل» بثروتها النفطية، ولكن تحت عباءة الدولة اللبنانية.
– تقوم قيادة محور المقاومة بحسابات دقيقة للمشهد العراقي وكيفية إدارة توازناته، سواء على أبواب الانتخابات، والخيارات الحكومية، ومصير الوجود الأميركي في العراق، ومستقبل الحدود السورية العراقية، قبل أن ترسم صورة السياسات التفصيلية مع الشركاء العراقيين، لكنها تدرك هذه المرة أهمية الخيارات الاقتصادية الاستراتيجية وحاجة شعوب بلدان المواجهة لتلمّس عائدات الانتصارات. وتطرح على هذا الصعيد سلة خطوات تتصل بمساهمة الشركاء في المحور برفع منسوب الاهتمام بالشؤون المعيشية للناس على جدول أعمالهم، لكنها تتضمن مشاريع استراتيجية كبرى اقتصادياً، يتقدّمها البحث الجدي بفتح الأسواق الإيرانية والعراقية والسورية واللبنانية على بعضها بعضاً، والبحث بخطط ربط نوعية لموارد الطاقة في النفط والغاز والكهرباء، وشبكات للنقل الجديدة تربط العواصم وتسهّل تنقل الأفراد والبضائع.
– تبقى القضية الفلسطينية والصراع في فلسطين أولوية قيادة محور المقاومة، وإذا كانت الوجهة العامة هي رفع درجة التصعيد بوجه كل تصعيد ضمن لعبة حافة الهاوية، اختباراً لقدرة واشنطن وتل أبيب في الذهاب للحرب، فإن محور المقاومة صار جاهزاً لمثل هذه الفرضية، ويتصرف على قاعدة أنها واقعة بعد كل جولة مواجهة، فإن الخشية من ذهاب «إسرائيل» للحرب على غزة يواكبها قرار أن الحرب قد تبدأ في جبهة، لكنها ستشمل الجبهات كلها، بحيث يكون على واشنطن وتل أبيب الاختيار بين الحرب الشاملة أو التعايش مع حقائق معاكسة للرغبات عنوانها، التسليم بالخروج من سورية وأبواب التسويات مفتوحة للراغبين، والتعايش مع ميزان الردع مع لبنان وليكن العنوان الدولة اللبنانية، ومع سيطرة محور المقاومة على الحدود السورية العراقية تحت عنوان تعاون سوري عراقي لمواجهة بقايا داعش، وصولاً للتعايش مع مشروع الانتفاضة والمقاومة في فلسطين.
– محور المقاومة رسم استراتيجيته وستظهر التكتيكات تباعاً بصيغة كمائن سياسية وعسكرية يكتشفها الأميركي و«الإسرائيلي» والسعودي تباعاً، في كل عملية تسخين يظنونها محسوبة وتأتي نتائجها عكسية، وأبواب متاحة للتسويات تحت سقوف واضحة ولو بعناوين سهلة الابتلاع.
– تتجه عيون محور المقاومة صوب اليمن لمعرفة حدود القدرة الأميركية «الإسرائيلية» بتحمل أكلاف الحرب العبثية السعودية، وقياس القدرة السعودية على مواصلة حرب الاستنزاف.