بقلم ناصر قنديل

ما الذي تغيّر مع إسقاط الطائرة «الإسرائيلية»؟: ناصر قنديل

لن يصير احتمال الحرب خارج التداول بعد إسقاط الدفاعات الجوية السورية للطائرة «الإسرائيلية»، فهو بالقدر ذاته يصير حاجة أكبر لـ«إسرائيل» كلما أصيبت مهابة قوتها العسكرية وتآكلت قدرة الردع التي تستند إليها وتسعى لترميمها، خصوصاً مع المكانة الحاسمة لسلاح الجو فيها، كما يصير بحاجة لحسابات أكثر وتروٍّ أكثر، وتتزايد بوجهه التعقيدات أكثر مع كل نكسة تصيب صورة القوة «الإسرائيلية»، فكيف عندما تكون النكسة قد أصابت عماد القوة «الإسرائيلية» التي يُبنى عليها قرار الحرب، وما يمثله سلاح الجو والـ»إف 16» على هذا الصعيد؟

لا تحتاج سورية ولا محور المقاومة للمبالغة بقراءة النتائج ورفع مستواها ليصير التقييم موضع جدل، بل يمكنهما الاكتفاء في قراءة النتائج والمتغيرات التي أدخلها حدث بهذا الحجم، بحدود القراءة التي يرتضيها «الإسرائيليون» والأميركيون، والانطلاق منها، فما جرى كبير جداً وسيترك آثاره على موازين القوى الإقليمية، وقدرة الردع «الإسرائيلية»، وصورة الجيش «الإسرائيلي» وسلاح الجو الذي يتباهى بكونه سيد أجواء المنطقة، وتحت هذا العنوان تحتل «إسرائيل» صفة تتيح لها أن تكون وجهة آمال حكومات الخليج كحامٍ لها وكشريك يُعتمد عليه في مواجهة إيران وحلفائها. وبهذه الصفة المستندة لقوة مهابة سلاح الجو تحتل «إسرائيل» أيضاً صفة الحليف الأهم لأميركا في المنطقة.

هذا ما يفسّر رفع «إسرائيل» لدرجة الشراكة الإيرانية في ما حدث وجعلها عنوان المواجهة، تهرّباً من الاعتراف لسورية بقوتها ومقدراتها، وتفادياً لإزعاج روسيا ودفعها للانسحاب من أي دور في التهدئة، علماً أن الأقرب هو تحميل روسيا نسبة أكبر إذا كان المطلوب تصنيع عدو أكبر من الدولة السورية للحفاظ على صورة «إسرائيل» التي أصابها الاهتزاز.

المهم في ما جرى هو أنه إعلان عن أن سورية أتمّت إعادة بناء منظومتها للدفاع الجوي، وهو ما سبق وأعلنه نائب وزير خارجيتها مع بدء العملية العسكرية التركية في شمال سورية ببيان رسمي مكتوب، تجاهلت «إسرائيل» بسبب غطرستها قراءة مضمونه جيداً، ولولا ذلك لما غامرت سورية التي تحمّلت الكثير من التمادي «الإسرائيلي» بالاستخفاف بقدرتها وجيشها، وبانتهاك سيادتها مراراً، فكما تحمّلت سورية سنوات كانت لتتحمل شهوراً، لو لم تكن قد أتمت هيكلة وترتيب دفاعها الجوي بما يتيح بعد هذا التحوّل الميداني التصدي لما هو لاحق، خصوصاً أنها قبل عام كانت قد أنهت المرحلة الأولى من هذه المهمة وجعلت أجواءها محرّمة على الطيران «الإسرائيلي»، وتدخل الآن مرحلة تحريم استهداف أراضيها من الأجواء اللبنانية.

لأن الحرب هي ذكاء التوقيت، فإن من المهم قراءة معنى التوقيت، بمواجهة بين حسابين متقابلين لتوقيتين، توقيت سوري وتوقيت «إسرائيلي»، في لحظة يحتاج كل منهما فيها لتسجيل نقطة حاسمة في السابق. فخلال شهر تعرّضت سورية لضغوط تصاعدية، لخلق مناخ يتيح فرض مشروع تفاوضي يحمله الأميركي، تحت عنوان وثيقة الخمسة، لتجميد المشروع العسكري للجيش السوري باسترداد الجغرافيا السورية تباعاً، وارتضاء تقاسم نفوذ بين الشركاء الدوليين والإقليميين في الوجود فوق الأراضي السورية، وصولاً لإلغاء مشروع الدولة السورية وتحويلها مجموعة مناطق حكم ذاتي وكانتونات، يجمعها انتداب أممي طويل. وهو مشروع يلبي مصالح أميركا والدويلة الكردية، و»إسرائيل» وشريطها الحدودي الممنوح لجبهة النصرة، وتركيا والكانتون التابع لها في الشمال، والسعودية وكانتون الغوطة، عدا المصالح المشتركة للجميع بتعطيل مشروع قيام دولة سورية شريك في محور المقاومة لما يشكله من مشهد دولي وإقليمي مختلف على مستوى موازين القوى.

الضربات التركية شمال سورية ودخول الجيش التركي للمزيد من الأراضي السورية، يتزامن مع تصاعد المواقف الأميركية عن بناء قوى سورية تابعة لواشنطن، ومع ضربات مؤلمة لسورية، تصيب بناها العسكرية الشعبية الموالية للدولة، ويتزامنان مع تصعيد عسكري «إسرائيلي» متسارع، يتوسّع مداه تدريجياً، والقواعد الروسية تتعرّض للهجمات التي تفوق تقنياً قدرة الجماعات المسلحة، ويليها إسقاط طائرة روسية بسلاح غير متوافر تقليدياً للجماعات المسلحة، فيما التركيز الإعلامي والدبلوماسي يستهدف الدولة السورية كمتهم باستخدام السلاح الكيميائي، بلا مقدمات، وتتعرّض روسيا للمزيد من الضغوط تحت هذا العنوان، بهدف إخراج الدولة السورية كشريك رئيسي مؤهل في العملية السياسية، وبالمقابل تركيز إعلامي ودبلوماسي على الحضور الإيراني وسلاح حزب الله كهدف مباشر يجب تحييده، وفقاً لمواقف كبار المسؤولين الأميركيين و»الإسرائيليين».

بالقدر الذي عبرت فيه هذه السلسلة المترابطة من الأحداث المتصاعدة دقة التوقيت «الإسرائيلي»، وحاجته لتسجيل نقطة تفوق حاسمة، قدّم هذا التصاعد المتسلسل والمتشعّب فرصة التوقيت السوري المتزامن مع استكمال الجهوزية لشبكات الدفاع الجوي لضرب الحلقة الأقوى في السلسلة التي يمثلها سلاح الجو «الإسرائيلي» ومكانة الـ«إف 16» فيه، فقد بات واضحاً أن روسيا مستهدفة وأن إيران مستهدفة وحزب الله مستهدف، وأن ما يجري مقدمة لنزع المكاسب التي حققها هذا الحلف في سورية في سنوات ما بعد التفاهم على الملف النووي الإيراني، وأن تقدّم الدولة السورية بدفاعاتها الجوية كرأس حربة لكل الحلف الذي قاتل وانتصر في الكثير من معارك المنطقة وسورية، هو الردّ الأمثل الذي يتكفّل بكسر السلسلة التي تشكل آخر فرص الحلف المقابل لتغيير قواعد الاشتباك، وانتزاع زمام المبادرة.

إسقاط الطائرة «الإسرائيلية» بالدفاعات الجوية السورية، فرض هوامش ضيقة جداً أمام حلف خصوم سورية وحلفائها، فإما تُقبل التهدئة وما تعنيه من فرض قواعد جديدة، أو المضي بالتصعيد وما يطرحه من مخاطر حرب غير مضمونة النتائج وفي ظروف أشدّ صعوبة، والواضح أن حلف واشنطن وتل أبيب وضمناً تركيا والسعودية، قد ارتبك. فما الذي سيجري إذا كرر الأميركيون غارات شمال دير الزور، وهل ستتعرّض طائراتهم للصواريخ؟ وهل يستطيع الأتراك تجاهل ما قد يحدث إذا دخلت طائراتهم الأجواء السورية وتجاهلت التحذير السوري؟ وإسرائيل نفسها ماذا عساها تفعل؟ وماذا ستفعل السعودية وتركيا تجاه مضي الجيش السوري في عمليات التطهير والتقدم في إدلب والغوطة؟

– الأهم، هو أن آلية صناعة الحرب في «إسرائيل» كقوة مركزية بين حلفائها تلقت إصابة بالغة يصعب ترميمها، فالرأي العام كشريك حاسم في هذه الآلية، ينطلق من ثقتين مركزيتين، واحدة بأنه رغم كل ما أصاب قدرة الردع لجيش الاحتلال فلا يزال يملك سلاح الجو الذي لا يمكن لأحد مواجهته والحد من تفرده في أجواء المنطقة، والثانية بأن حكومته مستندة بقوة لعلاقات دولية تجعل حساباتها شديدة الدقة، محاطة بضمانات تبدأ بواشنطن وتنتهي بموسكو تجعل فرضية التجرؤ على اختبار القدرة «الإسرائيلية» خارج النقاش، وقد أصيبت كلٌّ من هاتين الثقتين في الصميم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى