الثورة التي غيرت وجه الشرق
غالب قنديل
عشية انتصار الثورة الإيرانية بقيادة الإمام آية الله الخميني كان الشرق العربي يشهد زحفا شاملا للهيمنة الاستعمارية الصهيونية وردة رجعية قاسية على عهد التحرر الوطني بقيادة جمال عبد الناصر وكانت سورية القلعة العربية التي رفضت الاستسلام للمشيئة الإمبريالية شبه محاصرة والمقاومة الفلسطينية رهينة الحكومات الرجعية العربية وضغوطها في اللهاث خلف سراب التسويات المزعومة بينما كان الواقع اللبناني في حالة تآكل داخلي وتعفن فتح الطريق امام الاجتياح الصهيوني عام 1978 ثم امام الحرب الإسرائيلية الكبرى عام 1982.
كان كل ما يدور يشير إلى مواجهات صعبة يخوضها دعاة التحرر والانعتاق من الهيمنة الاستعمارية وأنصار مقاومة الاحتلال الصهيوني والصمود في وجه الحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي الذي انطلق هجوميا لتفكيك المنطقة ومحاصرة القوى التحررية بعد اتفاقيات كمب ديفيد وإلحاق مصر الدولة العربية الكبرى بمنظومة الهيمنة.
في هذا المناخ كان نظام الشاه ظهيرا دائما للكيان الصهيوني وقوة قمع وتدخل في ساحات عربية متعددة تحت الرعاية الأميركية البريطانية وقد نال لقب “شرطي الخليج ” بلا منازع وجاء اندلاع الثورة الشعبية في إيران مثل نسمة إنعاش ربيعية في قيظ حارق لجميع الأحرار وما إن أفصحت الثورة عن هويتها وظهر قائدها المبدع حتى اكتملت الصورة المشرقة لتوازنات جديدة كان أول من التقطها الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي كان يبحث عن سبل التعويض الاستراتيجي بعد رضوخ مصر وافتراقها عن سورية ومسارها المقاوم والمتصدي للهيمنة الأميركية الصهيونية على المنطقة.
خلال أيام من انتصار الثورة الشعبية العظيمة كان الجميع في معسكر الوطنية العربية التحرري في حالة احتفال بتحول طهران إلى قلعة ضد الهيمنة الاستعمارية الصهيونية لا سيما في ظل المكانة المركزية لفلسطين ضمن خطاب قائد الثورة ومشروعه المناهض للاستعمار والصهيونية.
قدم الإمام الخميني تشخيصا ووصفا ينم عن وعي استراتيجي عميق لطبيعة الكيان الصهيوني ولدوره في منظومة الهيمنة من خلال نظريته عن الغدة السرطانية كناية عن اعتباره الكيان الصهيوني بمثابة الركيزة الرئيسية في منظومة الهيمنة وتبنى في هذا السياق نهج المقاومة لتدمير الكيان واتخذ مبادرات كبرى في احتضان المقاومة الفلسطينية دون شروط ودعم مواقع الصمود والمقاومة العربية فكانت الشراكة الاستراتيجية مع سورية التعبير الأقوى عن نهج تحرري جذري ما لبث أن تجسد في أقوى مظاهره بعد الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 والاحتضان السوري الإيراني القوي لنواة المقاومة اللبنانية التي تنامت وتحولت إلى قوة قاهرة طردت الاحتلال دون قيد أو شرط وأدخلت المنطقة في عهد توازنات جديدة فأحيت الأمل بالقدرة على دحر الصهاينة وكسر جبروتهم.
من أهم ما أطلقته الثورة الإيرانية التي مرت على انتصارها أربعة عقود وترسخ نهجها وتجذر على يد خليفة القائد الخميني الإمام آية الله السيد علي الخامنئي وهو الاعتقاد الراسخ بارتباط تحرر دول المنطقة وانعتاقها من الهيمنة الغربية بتحرير فلسطين وبالصراع ضد الكيان الصهيوني.
قدمت القيادة الإيرانية منظومة تفكير استراتيجية تحررية وأحيت الروح الكفاحية بمداها الأوسع وانتشلت فكرة التحرر ونزعة الاستقلال في الشرق من علب التقوقع القطرية إلى المدى الأممي الواسع وقد جاءت السنوات الماضية لتثبت بقوة أهمية الحلف المقاوم الذي قام على جسر التحالف الإيراني السوري منذ قيام الجمهورية الإسلامية التي قدمت دعما نوعيا لمعركة الدفاع عن البلاد العربية ضد الحملة التدميرية التي حركتها الإمبريالية الأميركية بواسطة عصابات التوحش التكفيري وجاءت المساهمات الإيرانية الجليلة بالقدرات وبالأرواح والدماء دفاعا عن العراق وسورية ولبنان لتراكم رصيدا تاريخيا كبيرا في الدفاع عن هذه البلدان وعن الشرق بأسره.
من خلال دورها الداعم لقوى التحرر تجسد إيران فهما عميقا لمصالحها الوطنية البعيدة فحجم المقدرات الإيرانية الاقتصادية والاستراتيجية يجعل منها دولة شرقية عظمى وهذا الطموح التاريخي يضعها على خط الصراع الوجودي ضد الكيان لصهيوني وهذا إضافة إلى البعد المعتقدي هو سر مركزية فلسطين في نظرة القيادة الإيرانية إلى أوضاع المنطقة وقد تجهزت إيران واستعدت بكل قواها وإمكاناتها منذ انتصار الثورة لدور تاريخي بهذا الحجم مستندة إلى تضحيات شعبها العظيم وقدراته النوعية وإرادته الاستقلالية الحرة وهي قدمت خلال العقود الماضية نموذجا مدهشا في الكفاية الذاتية والبناء الذاتي لقدرات اقتصادية عظيمة على أساس الاستقلال السياسي والاقتصادي وبتنمية القدرات الدفاعية والردعية لحماية ذلك الاستقلال وهي تخوض ثورتها الصناعية بجدارة من خلال امتلاكها للتكنولوجيا الحديثة مفتاح التحديث والتطور المستقل في العالم المعاصر.
خلافا لكل ما يروجه عملاء الاستعمار في المنطقة ليست لإيران اطماعها الخاصة في أي منطقة من جوارها وما تحوزه من رصيد واحترام لدى قوى المقاومة والتحرر في البلاد العربية وخصوصا في فلسطين وسورية ولبنان والعراق واليمن والبحرين وشبه الجزيرة العربية هو نتاج نهجها الاستقلالي المناهض للهيمنة وتبنيها الصادق لقضية فلسطين ودعمها غير المشروط لمواقع الصمود والمقاومة العربية في شراكة نبيلة ونزيهة مع جميع العرب الأحرار المناهضين للهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية.
إيران القلعة الشرقية الحرة التي تقيم شراكات وتحالفات عالمية ضد الهيمنة الأميركية الأحادية على العالم تستحق احترام وتقدير الوطنيين والثوريين العرب الذين ينظرون باحترام لاحتضان إيران غير المشروط لحزب الله المقاوم ولتحالفها الاستراتيجي مع سورية العربية ولتضحياتها الجليلة من أجل فلسطين ولكل ما تقدمه في سبيل انعتاق الشعوب والبلدان المستضعفة من هيمنة الاستعمار وفقا لوصية الإمام الخميني ولتوجيهات السيد الخامنئي من بعده لقد غيرت هذه الثورة وجه الشرق وبات فعليا ما بعدها غير ما قبلها في المنطقة والعالم.