الاقتصاد السياسي للتوجه شرقاً (4)
حميدي العبدالله
المعيقات والعراقيل
قيام تكتل شرقي, انطلاقاً من العوامل الاقتصادية, والعوامل السياسية، التي تعمل في صالح ولادة هذا التكتل, بل تجعل احتمال قيامه أمراً مرجحاً, لا يعني أن ولادة كتلة شرقية تشبه الكتلة الغربية لا تواجهها أية معيقات وعراقيل. ومثلما أن كثير من العراقيل والمعيقات أخرت ولادة الاتحاد الأوروبي حوالي ربع قرن، فإن فعل بعض المعيقات سوف يؤثر على وتيرة وسرعة العمل لولادة التكتل الشرقي.
واحدة من أبرز المعيقات والعراقيل تكمن في حجم التبادل التجاري, لاسيما بين الصين والولايات المتحدة. أظهرت المعطيات الإحصائية المنشورة عام 2016 أن تبادل السلع بين الولايات المتحدة والصين كان كبيراً للغاية, وسجلت الولايات المتحدة أكبر عجز لها في هذا العام تجاه الصين, إذ بلغ 347 مليار دولار. يعني ذلك أن الصين صدرت سلع إلى الولايات المتحدة تفوق قيمة هذا المبلغ لأن المبلغ يشير إلى العجز التجاري, أي أن الصين تصدر سلع أكثر مما تستورد من الولايات المتحدة بهذا القدر, وهذا يعني أن الصين لا تمتلك القدرة على الاستغناء عن الأسواق الأميركية, فالولايات المتحدة هي الشريك الأكبر والأول تجارياً للصين, فمنذ عام 2015 أصبحت الصين اكبر شريك تجاري للولايات المتحدة, وبلغ حجم التبادل التجاري بينهما 519.6 مليار دولار.
وبديهي أن هذه الشراكة تخلق شكل من أشكال التبعية المتبادلة, والمقصود بالتبعية المتبادلة, أن الولايات المتحدة لا تستطيع الاستغناء عن الصين كسوق لتصريف بضائعها وكساحة لتوظيف استثماراتها والحصول على أرباح مرتفعة كعائد على هذه الاستثمارات، وهذا هو الذي يفسر أسباب تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن وعوده الانتخابية بشأن الصين, حيث كان قد وعد بتقييد الاستيراد من الصين لحماية مصالح الشركات الأميركية من منافسة البضائع الصينية في السوق الأميركي, بعد أن تبين له أن الإقدام على مثل هذا العمل سيدفع الصين للرد والمعاملة بالمثل, وبالتالي ستكون خسارة الشركات الأميركية توازي الخسائر التي سيلحقها أي إجراء موجه لتقييد الاستيراد من الصين. وأيضاً الصين لا تستطيع الاستغناء عن الولايات المتحدة، لأن من شأن ذلك فرض قيود على وصول السلع الصينية إلى السواق الأميركية وهذا يعني أكبر خسارة تحل بالاقتصاد الصيني, وسيقود ذلك إلى اندلاع أزمة اقتصادية حادة في الصين ويؤثر على معدلات النمو, وربما يترك كل ذلك تداعيات تهدد الاستقرار في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه مليار و400 مليون نسمة. الشراكة مثلاً بين الصين ودول البريكس, أو دول التكتل الشرقي لم تصل بعد إلى معدلات عالية تقترب من معدل الشراكة بين الصين والولايات المتحدة, مثلاً التبادل التجاري بين الصين والهند لا يزال عند حدود (71) مليار دولار, حسب إحصاءات عام 2015, في حين أن حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين بلغ عام 2017, (84) مليار دولار.
معروف أن الهند والصين وروسيا تشكل نواة التكتل الشرقي, ولكن التجارة البينية بين الدول الثلاث لم تصل بمجموعها إلى نصف حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة, وإذا ما أخذ بعين الاعتبار حجم التجارة بين الصين والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة يصبح الاختلال أكثر قوة وأكثر حدة باتجاه تكريس التبعية المتبادلة بين الصين ودول البريكس والاقتصادات الغربية, وهذا يؤثر بكل تأكيد على وتيرة وسرعة ولادة التكتل الشرقي.
هناك عامل آخر يعيق ولادة التكتل الشرقي ويؤثر على سرعته, يتمثل بحجم الاكتتاب الصيني بسندات الخزينة الأميركية, فحسب أول إعلان رسمي صدر عن الخزينة الأميركية في أيار 2017 تبين أن الصين ما تزال تحتل المركز الأول على مستوى العالم في الاكتتاب بسندات الخزينة الأميركية, إذ بلغت استثماراتها بنهاية شهر آذار 2017 حوالي 1.244 تريليون دولار. ومما لا شك فيه أن الاكتتاب الكبير في سندات الخزينة من قبل الصين يعزز فعل التبعية المتبادلة, فليس من مصلحة الولايات المتحدة خسارة اكتتاب الصين في سندات الخزينة, وليس من مصلحة الصين الوصول في علاقاتها مع الولايات المتحدة إلى حد القطيعة، الأمر الذي يشكل خطراً على استثمارها في سندات الخزينة وربما خسارتها لهذا المبلغ الضخم.
هذه التبعية المتبادلة تجارياً, والاستثمار في سندات الخزينة يدفع الصين وكذلك الولايات المتحدة إلى احتواء أي صراع أو خلاف ينشب بينهما, وهذا من شأنه أن يؤثر على وتيرة وسرعة ولادة التكتل الشرقي, كما يحد من إمكانية حصول مواجهة قوية وحادة بين هذا التكتل والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة.
هناك عامل ثالث يعيق ويؤثر على سرعة ولادة التكتل الشرقي، وهو هيمنة الولايات المتحدة على النظام المالي العالمي، لا تزال مؤسسات «بروتون وودز» التي ولدت في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي تهيمن عليها الولايات المتحدة تتحكم بالنظام المالي العالمي، وهذا التحكم يؤثر على العلاقات الاقتصادية والتجارية ليس في مجموعة البريكس وحدها، بل على مستوى الاقتصاد العالمي, ولا يلوح في الأفق إمكانية للتغلب على هذه الهيمنة من قبل الدول المرشحة لتكوين التكتل الشرقي، إما لأسباب تتعلق بالتبعية التجارية مع الكتلة الغربية، أو لأسباب تتعلق بالقدرة على إيجاد نظام مالي بديل يحوز على شمولية التأثير على التجارة الدولية يوازي تأثير النظام المالي الحالي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة والدول الغربية. لاشك أن روسيا والصين تعملان على الإفلات من أسار النظام المالي العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وقد رصدت صحيفة «واشنطن بوست» ودورية «بلومبيرغ نيوزسرفيس» هذه المحاولات حيث أكدتا أن ثمة «مخاوف تتصاعد من محاولات روسيا والصين ودول أخرى ابتداع وتبني هندسة مالية موازية يمكنها أن تتجاوز العمل بالنظام العالمي القائم الآن الذي يسمح للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معرفة مصادر تحويل الأموال وأماكن تحويلها والجهات التي ستستلمها». مثل «ابتداع روسيا في عام 2015 بديلها الخاص لنظام منصة سويفت».
وبكل تأكيد من شأن كل ذلك إلغاء فاعلية نظام العقوبات الاقتصادية الذي تعتمده الولايات المتحدة, ولكن للوصول إلى هذه الغاية تحتاج روسيا والصين لوقت طويل, في هذا الوقت سوف تظل موسكو وبكين حريصتان على عدم الذهاب بالمواجهة إلى النهاية مع الغرب ومع الولايات المتحدة, في هذا السياق تنقل «واشنطن يبوست» و«بليومبيرغ» إنه على الرغم من صعود «مؤشر القلق من زيادة المخاطر على الدور الذي تلعبه العقوبات الاقتصادية في إبراز الولايات المتحدة لعضلاتها السياسية في العالم», إلا أن «خبراء…. يرون أنه في الوقت الذي قد يتم فيه استخدام البيتكوين (العملة الافتراضية لتهميش النظام المالي الحالي) فإنها لا تمتلك إلا قدرة ضعيفة عل تجاوز العقوبات», ولم تتجاوز «قيمة عملة البيتكوين السوقية (200) مليار دولار».
هذه العوامل الثلاث مجتمعة ستؤخر ولادة كتلة شرقية فاعلة ومستقلة عن الكتلة الغربية، ويؤثر على جاذبية الكتلة الشرقية بالمقارنة مع الكتلة الغربية.