شجاعة الاعتذار أم شجاعة العناد؟: ناصر قنديل
– ليست القضية الآن مناقشة مواضيع خلافية حول قانون الانتخابات أو حول مرسوم الأقدمية أو حول نظرة التيار الوطني الحرّ وحركة أمل لبعضهما البعض واتهام التيار للحركة بالسعي لبناء دولة محاصصة على حساب تطلعات التيار الإصلاحية، واتهامات الحركة للتيار بالسعي لتعميم أوسع نطاق للمحاصصة باسم مناهضتها، أو اتهام التيار للحركة بالحنين إلى العودة لزمن الغياب المسيحي عن دولة ما بعد الطائف، أو اتهام الحركة للتيار بالحنين لدولة ما قبل الطائف كلياً، فكلّ هذا يصبح صغيراً أمام أن يذهب البلد إلى حيث تنفلت الغرائز وتغيب السياسة، وتذبل القيم، ويصير الحلال حراماً والحرام حلالاً، ويغيب الأوادم وينتشر الزعران، في المنابر والشوارع والأحزاب .
– ليست القضية فيديو مسرّباً ولا كلاماً منسوباً، ولا قضية متربّصين ولا مصطادين بالماء العكر، بل كلام معيب ومرفوض ولا يتصل بقواعد وأدبيات وقيم العمل السياسي ارتكبَ فيه فعلَ القول وزيرُ خارجية لبنان ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، بحق مقام وطني كبير هو رئيس مجلس النواب نبيه بري. والوزير باسيل شخص يشقّ طريق الصعود والتقدّم في الحياة السياسية ويبني حضوراً في الداخل والخارج ويتأهّل للعب أدوار، وينجح بجمع النقاط وتحقيق المكاسب ويحظى بثقة مواقع هامة وفاعلة تتيح له تحويل الطموحات واقعاً. وفجأة يرتكب الخطأ القاتل فيحوّل الخلاف والسجال من حيث هو تباين وصراع وتجاذب، إلى حيث هو شتيمة ولغة هابطة. والشتيمة هنا لا ينفع في تبريرها أيّ كلام عن تسريب أو كلام منسوب، فهي فعل وله فاعل ونقطة على السطر.
– ليست القضية أن يختلف البعض بحق أو بغير حق مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ولا أن يتوسّل البعض الخلاف معه لكسب سياسي أو سلطوي أو طائفي، ولا أن يكون الرئيس بري كلاعب سياسي حاسم وفاعل في المعادلة اللبنانية القائمة منذ عقود، كركن من أركان نظام يمكن أن يُقال فيه وله وعليه الكثير، وأن يناله من هذا الكثير بسلبه وإيجابه الكثير أيضاً، موضوعاً لتقييم أو طرفاً في خلاف، بل القضية أنّ الرئيس بري يختزل في شخصه قامة ترمز لجيل وطموحات أجيال، ورجل دولة قلّ نظيره في برلمانات العرب والعالم كرمز للقدرة على حماية لغة الحوار والحلول وصناعة المبادرات، قامة كتبت تاريخ صعود المقاومة وانتصاراتها، وسجل لها ريادة النضال لإسقاط مشروع الاحتلال «الإسرائيلي» لبيروت الذي توّج باتفاق السابع عشر من أيار، وإسقاط مشروع العنصرية الطائفية واستبداله بحكومات الشراكة الوطنية وصولاً إلى اتفاق الطائف، وإسقاط مشروع الاستتباع الأميركي ومشروع فيليب حبيب، واستبداله بلبنان العربي الهوية والانتماء بعلاقته المميّزة مع سورية الذي كرّسه اتفاق الطائف. والرئيس بري رمز جامع لطائفة لبنانية مؤسسة أنصفها النظام اللبناني واعترف بحقوقها مكوناً كامل الأوصاف متأخراً، تتويجاً لنضال وعذابات لأجيال توّجت مكانتها مع رمزية قيادية مرجعية مثلها موقع الرئيس نبيه بري، والنيل بلغة مسيئة ونابية من الرئيس نبيه بري هو استنفار عصبي لكلّ من تعنيهم هذه الأبعاد وتلك المعاني.
– ليست القضية أنّ عابر سبيل أو كاتباً نكرة قال كلاماً مسيئاً بحق الرئيس نبيه بري، بل القائل هو رئيس التيار الوطني الحر، التيار الذي صار زعيمه ومؤسّسه رئيس الجمهورية القوي العماد ميشال عون، الزعيم المسيحي الآتي من خلفية تاريخ مليء بالمواقف الجدلية والسجالية، لكن المشهود له بالشجاعة والصدق والوفاء والثبات والصمود وشرف الاتفاق والخلاف، وقد رفض البيع والشراء في طلب الرئاسة، وصار رئيساً، في انتصار لخيار تاريخي راهن عليه جمهور المقاومة التي يتشارك جمهور الرئيس بري في تكوينه، بغضّ النظر عن ملابسات الموقف الانتخابي وتفاصيله، والكلام المقال يأتي على خلفية انقسام بين تيارين وجمهورين وشارعين شريكين في الخيارات الكبرى، لكنه يُقال على خلفية الإقرار بسهولة اشتعال الحرب الكلامية وغير الكلامية بينهما بمقدار سهولة سيولة الشوارع الطائفية في لبنان.
– ليست اللحظة للتأمّل ولا للعتاب، ولا لمناقشة الصحّ والخطأ في قضايا الخلاف، بل اللحظة للقرار والإقدام. وكلّ إسراع توفير لمزيد من الخسائر، والقرار بيد رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوزير جبران باسيل، ثمة خطأ، وثمة عناد يبني شخصية الرجل القوي رئيساً للجمهورية أو رئيساً للتيار، والمفاضلة بينهما اليوم هي مفاضلة لصالح الوطن، والاعتذار الذي يشكل أقلّ الواجب عما قيل، قد يبدو انكساراً لشخصية العناد التي تبحث عن صورة القوة، لكن ليس هذا هو الحساب الذي نتوقع أن يقيمه من يتولى المسؤولية الأولى في الدولة، أو مَن يتصدّر لتوليها في يوم من الأيام ويجمع النقاط بنجاح نحوها، بل الحساب هو أن ثقافة الاعتذار حرص ومسؤولية عندما تكون واجباً عن خطأ تمّ ارتكابه فعلاً، هي الشجاعة التي تكتمل بها معايير صناعة الشخصيات القيادية للشعوب والدول، «ومَن كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»، و«التراجع عن الخطأ فضيلة»، بل هو الفضيلة. الشجاعة هنا تفوق شجاعة موهومة يرسمها العناد، قيل في الماضي «كلمة بتحنّن وكلمة بتجنّن»، واللبنانيون اليوم يحتاجون وينتظرون «الكلمة اللي بتحنّن» ومن حقهم أن يضعوا أيديهم على قلوبهم من «الكلمة اللي بتجنّن»، والفاصل بينهما هو حق وحقيقة، وليس منّة ولا جميلاً.