إسرائيليان بين بيروت وصيدا: حسن عليق
فرع المعلومات يكشف «الصورة الكاملة» لمحاولة اغتيال حمدان
لم تكن محاولة اغتيال القيادي في حركة حماس، محمد حمدان، في صيدا، استثناءً، مقارنةً بالعمليات الإرهابية التي سبق أن نفذها العدو الإسرائيلي داخل لبنان. فهذه المرة أيضاً، لم تكتف استخبارات العدو بتكليف عملاء محليين لارتكاب الجريمة. فقد كشفت تحقيقات فرع المعلومات عن وجود ضابطين إسرائيليين، أحدهما سيدة زرعت العبوة، والثاني فجّرها، ثم غادرا لبنان، واستخدما جوازات سفر جورجية وسويدية وعراقية
بعد محاولة اغتيال القيادي في حركة المقاومة الإسلامية حماس، محمد حمدان، في صيدا (14 كانون الثاني 2018)، خرج وزير استخبارات العدو، يسرائيل كاتس، في تصريح لإذاعة جيش الاحتلال متبجّحاً: «لو كانت إسرائيل متورطة بالتفجير، لما كان المُستهدف لينجو بجروح بسيطة». لكن، خابت مساعي التضليل والحرب النفسية التي مارسها كاتس، الساعي إلى خلافة بنيامين نتنياهو في رئاستي الحزب والحكومة.
ففي لبنان، باتت الأجهزة الأمنية الرسمية ــ وتحديداً فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي ــ تملك تصوّراً كاملاً لكيفية تنفيذ العملية المعقّدة التي نجا منها حمدان، بمحض الصدفة. والأخطر، إسرائيلياً، أن فرع المعلومات تمكّن من تحديد هويتي ضابطين إسرائيليين، شاركا، مع عملاء لبنانيين، في محاولة الاغتيال التي ستُضاف إلى لائحة العمليات الفاشلة لأجهزة استخبارات العدو.
المعلومات التي حصلت عليها «الأخبار» تشير إلى أن التحقيق توصل إلى معرفة الضابطين الإسرائيليين، والحصول على صورهما، وعلى نسخ من وثائقهما الثبوتية، وتاريخ دخولهما إلى لبنان وخروجهما منه، ودور كل منهما في العملية، إضافة إلى تحديد الجنسية التي استخدمها كل منهما للتجول في لبنان بحرّية.
التحقيقات كانت قد مكّنت فرع المعلومات من تحديد مشتبه فيهما لبنانيين، باتا معروفَين:
1 ــ محمد ح، الذي غادر إلى تركيا ليل الاثنين/ الثلاثاء (15 ــ 16 كانون الثاني). وبعد اتصال رئيس الحكومة سعد الحريري برئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان، أوقفته الاستخبارات التركية. وعقب إرسال الأوراق القانونية اللازمة لاسترداده، أعيد إلى لبنان، برفقة بعثة أمنية من فرع المعلومات. وحاول التنصّل من العودة إلى بلاده، عبر الادعاء بأنه إسرائيلي لا لبناني. لكن تدقيق السلطات التركية في جواز سفره أظهرت أنه غير مزوّر، فاستُكمِلت عملية التسليم. وصل إلى بيروت فجر الثلاثاء الماضي، وبدأ فرع المعلومات التحقيق معه. وتبيّن أنه يعمل لحساب الاستخبارات الإسرائيلية منذ أكثر من 5 سنوات. وقالت مصادر معنية لـ«الأخبار» إن التحقيق مع الموقوف كشف أن مراقبة حمدان بدأت منذ أكثر من 7 أشهر، أي، منذ ما قبل انتقاله إلى منزله الذي جرت محاولة اغتياله قربه. فقبل نحو 6 أشهر، كان حمدان يسكن في منطقة سيروب في صيدا، وكان محمد ح. يقطن أيضاًَ في حي قريب. ومنذ ذلك الحين، كلّفت الاستخبارات الإسرائيلية عميلها بمراقبة هدفها.
2 ــ محمد ب. الذي تشير تحقيقات فرع المعلومات إلى أنه العميل الرئيسي في هذه العملية. فهو تولى المراقبة اللصيقة لحمدان، من خلال مستودع استأجره قرب منزل القيادي الحمساوي، بذريعة تخزين الثياب. ويعتقد المحققون بأن استخبارات العدو كانت قد زرعت كاميرات مراقبة داخل المستودع، بهدف معرفة وتيرة تحرك حمدان وتفاصيله. لكن محققي استخبارات الجيش الذين مسحوا المستودع بعد اكتشافه، لم يجدوا فيه ما يساعدهم على التقدم في التحقيق. واستنتجوا بأن الاستخبارات المعادية أفرغت المستودع من كل ذي قيمة أمنية قبل تنفيذ العملية. وللتذكير، فإن محمد ب. غادر لبنان ليل 14 ــ 15 كانون الثاني إلى تركيا، واتجه منها إلى هولندا، عبر روما. وبحسب مصادر معنية بالتحقيق، فإنه تولى مراقبة حمدان عن قُرب في الأيام الأخيرة التي سبقت تنفيذ العملية.
دور محمد ب. لم يكن محصوراً بالمراقبة. فقد كلّفه مشغلوه بأن يرافق امرأة من بيروت إلى صيدا، لزرع العبوة التي ألصِقَت أسفل سيارة حمدان. محمد ب. والامرأة المجهولة، انتقلا إلى صيدا ليل الخميس ــ الجمعة (11 ــ 12 كانون الثاني 2018). ويُقدِّر المحققون في استخبارات الجيش أنهما أرادا زرع العبوة في تلك الليلة، لأن حمدان لا يستخدم سيارته سوى يومي الجمعة والأحد، كونهما يومي عطلة في المدرسة التي يدرّس فيها. لكن صدفة أيضاً حالت دون زرع العبوة. فأحد جيران حمدان كان عائداً من السفر، ووصل إلى موقف السيارات (حوالى الساعة الثالثة فجراً)، وفوجئ بشاب وشابة في الموقف، بحسب الإفادة التي أدلى بها لاستخبارات الجيش. ولما سألهما عن سبب وجودهما في المكان، أجابه من يُعتقد بأنه محمد ب. وقال له إنهما أتيا لأنه يريد أن يغسل يديه، وأنه كان في المستودع، وذكر اسم ناطور المبنى قائلاً إنه يعرف بوجودهما. ولما سمع الشاهد اسم الناطور، لم يكترث لهما، وصعد إلى منزله، فيما غادرا المكان. وبناءً على إفادات الشاهد، وناطور المبنى، والشخص الذي استأجر منه محمد ب. المستودع، رسم محققو استخبارات الجيش رسماً تشبيهياً لمحمد ب. قبل أن يحدد فرع المعلومات هويته كاملة، ويستجوبوا زوجته وأفراداً من عائلته ويحصلوا على صور له. كذلك وضعوا رسماً تشبيهياً للامرأة، التي قال الشهود إن ملامحها شرق آسيوية، وترتدي نظارات طبية.
عاد محمد ب. برفقة الامرأة المجهولة ليل السبت ــ الأحد (13 ــ 14 كانون الثاني). وتولت زرع العبوة الناسفة، وغادرت إلى بيروت مع محمد ب. وصباح الأحد، سافرت عبر مطار بيروت الدولي إلى قطر، ومنها إلى دولة ثالثة لم تُحدّد بعد.
ومن بيروت، عاد محمد ب. برفقة رجل مجهول، إلى صيدا صباح تنفيذ العملية. وبعد مراقبة سيارة حمدان من مكان يبعد أكثر من 100 متر، انتظرا حتى نزول حمدان، ثم فتحه باب السيارة، ودخوله إليها. لكن الصدفة التي أنقذت حمدان كانت أنه شغّل محرك السيارة، بعدما أدخل يده إليها، من دون أن يجلس على المقعد. بقي جسده خارجها. لكن، بحسب تقدير المحققين، أن محمد ب. و«الرجل المجهول»، ظنّا أنه جلس في مقعد السائق. وعندما فجّر أحدهما العبوة، كان حمدان خارج السيارة، فنجا.
فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي أجرى تحقيقات مكثّفة، سمحت له برسم صورة كاملة للجريمة الإرهابية. والمرحلة الأهم من التحقيق، أدت إلى كشف هوية الامرأة والرجل المجهولَين، وأماكن سكنهما في لبنان. الأول يحمل الجنسيتين العراقية والسويدية، والثانية تحمل الجنسية الجورجية. وفيما غادرت الأخيرة عبر مطار بيروت إلى قطر، كمحطة إلى دولة ثالثة، توجّه العراقي ــ السويدي إلى فرنسا يوم 14 كانون الثاني ليلاً. وبحسب مصادر معنية بالتحقيق، فإنهما كانا يتحركان في لبنان، كل منهما على حدة، مع العميل محمد ب. أو بدونه، وفي سيارة العميل محمد ح. أو في سيارات أجرة عادية. وقد تنقلا غير مرة بين بيروت وصيدا. وبات في مقدور المعنيين بمتابعة محاولة اغتيال حمدان الجزم بأن الجورجية والسويدي ــ العراقي ليسا سوى ضابطين في أحد أجهزة استخبارات العدو. وتستمر التحقيقات لمعرفة ما إذا كان العدو قد أشرك في الجريمة أكثر من ضابطين وعميلين.
وذكّرت مصادر أمنية وأخرى سياسية بأن ما فعله فرع المعلومات يُعيد إلى الأذهان ما جرى بعد اغتيال القيادي في حركة حماس محمود المبحوح في دبي مطلع عام 2010، وانفضاح دور الاستخبارات الإسرائيلية في تنفيذ العملية، وانكشاف هويات نحو 26 شخصاً يعملون في استخبارات العدو، ويُعتقد أنهم جميعاً إسرائيليون، رغم كونهم يحملون جوازات سفر غير إسرائيلية. وقد استخدموا حينذاك جوازات بريطانية وفرنسية وإيرلندية وألمانية وأسترالية. وكما في دبي قبل 8 سنوات، كذلك في لبنان اليوم: تحصين الأمن القومي وردع العدو يوجبان على السلطات اللبنانية كشف التفاصيل الكاملة للعملية، ونشر كل المعلومات الشخصية عن الإسرائيليَّين، والاحتجاج لدى الدول التي يحملان جوازات سفرها وتعميم اسميهما، مع العميل محمد ب. عبر الأنتربول، وطلب توقيفهم. يصعب تخيّل أحدهم خلف القضبان، لكن لا بد من توجيه رسالة لا لبس فيها إلى العدو: ضبّاطك وعملاؤك التنفيذيون سيُكشفون بعد كل اختراق للأمن اللبناني.
(الاخبار)