رغم “الغضب والنار” الرئيس المغرّد باق حتى إشعار آخر منذر سليمان
بعد عام على تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة لم يكن المتابع يحتاج إلى صدور كتاب “النار والغضب” ليلمس حالة الاضطراب والارتباك والانشطار إلى قبائل متنازعة التي تسود البيت الأبيض منذ دخول ترامب إليه، وتعمّق الانطباع السلبي عن مسار الإدارة الأميركية .
لخصت الأسبوعية الأميركية “يو أس نيوز أند وورلد ريبورت” الحالة التي يمثلها ترامب بـ”الرئيس الأكثر جدلاً وإثارة للخلاف في تاريخ المؤسسة الرئاسية الأميركية… وأنه عزز حالة الانقسام الحادة بين الأميركيين من خلال سلوكياته المزاجية الغاضبة ومشاكساته اللامتناهية.
لم يكن المتابع يحتاج إلى صدور كتاب “النار والغضب” مؤخراً ليلمس حالة الاضطراب والارتباك والانشطار إلى قبائل متنازعة التي تسود البيت الأبيض منذ دخول ترامب إليه، وتعمّق الانطباع السلبي عن مسار الإدارة بالاستقالات أو الإقالات للعديد من كبار مساعديه فيما بعضهم يتعرض للتحقيقات والملاحقات القضائية.
على مدى عام بقي ترامب محاصراً من إعلام أميركي منتقد ومندد يعكس مواقف قطاعات واسعة من الشعب الأميركي ليست محصورة بمؤيدي الحزب الديمقراطي أو قيادته في الكونغرس، مع التذكير بأن أضخم تظاهرة مليونية احتجاجية في تاريخ الرئاسة الأميركية جرت في اليوم التالي لتنصيب ترامب رئيساً وقادتها الحركة النسائية الأميركية بصورة خاصة.
حالة الحصار الإعلامي لترامب تعتاش على الوقود شبه اليومي لتسريبات من مختلف الأجهزة الحكومية تطال التحقيقات الجارية حول ضلوع روسيا الاتحادية في دعم حملة ترامب للرئاسة ومحاولات التغطية على مخالفات قانونية أو لتداعيات فصل مدير مكتب التحقيقات السابق جايمس كومي وعرقلة سير العدالة أو لمسلسل الاتهامات بالتحرش الجنسي من عشرات النساء.
كما يسجل لترامب سبق في كونه الرئيس الأول في تاريخ الولايات المتحدة الذي تعرّض في العام الأول لرئاسته لاتهامات وهواجس تتعلق بحالته النفسية والعقلية وأهليته لتبؤ منصب الرئاسة.
ونقل تقرير لصحيفة “بوليتيكو” اليومية عن أستاذة علم النفس في جامعة “ييل” براندي لي قولها “إن حالة الرئيس ترامب العقلية على وشك الانهيار”، وكانت لي قد أشرفت على تحرير كتاب صدر مؤخراً بعنوان “الحالة الخطرة لدونالد ترامب”، ويتضمن مساهمات من 27 عالماً نفسياً وأخصائياً في تقييم الحالة الصحية بالتركيز على “خطورة” الرئيس، وأضافت الصحيفة “إن البيت الأبيض يسخر من أي نقد يخص الحالة النفسية للرئيس واعتبارها “مجرد أوهام ليبرالية“.
إخفاقات داخلية وتخبط في السياسة الخارجية
لا يساعد الرئيس إخفاقه في ترجمة أبرز وعوده الانتخابية لاسيما إلغاء واستبدال برنامج الرعاية الصحية “أوباما كير” وبناء جدار الفصل على الحدود المشتركة مع المكسيك وإصلاح نظام الهجرة وفشله في فرض رؤيتة على كل من إيران وكوريا الشمالية أو انتزاع أي تنازلات ملموسة منهما.
رغم إعلان ترامب عن استراتيجية الأمن القومي الجديدة في عامه الأول، لم تأخذ حيزاً وافياً من الإهتمام، لسيادة الإنطباع أنه يتصرف في ميدان السياسة الخارجية بمزاجية وردات الفعل، ولن يكون ملتزماً كثيراً بما يكتب من مقررات أو وثائق.
غالباً ما تتم الإشارة إلى تخبط سياسته نحو كوريا الشمالية كمثال. لكن ترامب استطاع معتمداً على تنسيق وتأييد مبطّن من بعض الدول العربية الخليجية، وفي مقدمتها السعودية، للإعلان عن قرار نقل السفارة الأميركية للقدس واعتبارها عاصمة لإسرائيل، ويستمر بالإيحاء بأنه سيحقق ما وصفه بـ”صفقة العصر” لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، علماً أن الموضوع غاب كلياً عن استراتيجية ترامب الآنفة الذكر.
يبدو ترامب كمن يبرر مقاربته للشؤون الخارجية من زاوية شعاره “أميركا أولاً” ويعتبر أن مبيعات الأسلحة للدول الخليجية وجذب صناديق استثمارها، وكذلك العودة للحمائية الاقتصادية في التبادل التجاري مع العالم، والاستمرار في تحدي ومنافسة الصين وروسيا على المسرح الدولي، وزيادة الإنفاق العسكري الأميركي للحفاظ على التفوق الأميركي، سيساعده في إنعاش أميركا إقتصادياً. ولا يفوت ترامب ترداد أن ارتفاع أرقام البورصة مؤشر على نجاح توجهاته الاقتصادية ونهجه.
لكن الواقع يشير إلى تعثّر كبير لعلاقات أميركا الخارجية وليس أبلغ من اضطرار ترامب لإلغاء زيارته لبريطانيا كمؤشر على بارومتر العلاقة مع أوروبا عموماً. ولا ينحصر الخلاف بين ترامب والعواصم الأوروبية حول قضية المناخ أو الإتفاق النووي مع إيران بل يطال قضايا إقليمية ودولية متعددة. كما لا يمكن وصف علاقة أميركا بكل من حلفاء الأمس مثل تركيا وباكستان إلا بالمضطربة والمتوترة.
التغريدات والإحراجات
اعتمد ترامب على استخدام التغريدات كوسيلة للالتفاف على وسائل الإعلام الأميركية، ورغم أن تغريداته توقعه في إحراجات كثيرة له ولكبار مساعديه، إلا أنه يستمر في اعتمادها ويعتبرها الوسيلة الفعّالة للتواصل مع قاعدته الانتخابية المتماسكة، والتي لا تزال تؤيده في كل الأحوال، رغم أنها لا تتجاوز معدل 30% من القاعدة الانتخابية العامة.
رغم الأصوات المرتفعة والمحاولات المتكررة وخاصة من أوساط الحزب الديمقراطي الداعية لمحاكمة الرئيس وعزله لعدم أهليته للرئاسة ولممارساته العنصرية والمحرّضة على الكراهية، والتي طالت فئات وأعراقاً من أبناء الشعب الأميركي لا بل توجيه إهانة وكلاماً نابياً لدول أفريقية ولاتينية بسبب هجرة أبنائها الى الولايات المتحدة، رغم سيل الانتقادات والاتهامات لا يزال قادة الحزب الجمهوري ملتزمين بالدفاع عن ترامب والتعاون معه، ويدركون الحاجة المشتركة بينهما لخوض الانتخابات النصفية المقبلة بأقل الخسائر الممكنة لمنع إمكانية اختراق الحزب الديمقراطي لهذه الانتخابات وتحقيق الأغلبية في مجلسي الكونغرس لأن فوز الديمقراطيين لن يشكل هزيمة معنوية كبرى للحزب الجمهوري وللرئيس ترامب فحسب، بل ستفتح الباب واسعاً على المساعي الجدية للحزب الديمقراطي للبدء بإجراءات ترتيب ملف عزل الرئيس والإطاحة به.
شكّل موضوع تنظيم الهجرة أبرز وعود ترامب الانتخابية، وسارع لإصدار أوامر تنفيذية تحظر اللاجئين والزائرين من دول إسلامية عدة، وتهدف لتعليق العمل ببرامج الإعفاء من التأشيرات أو نظام القرعة. كما سعى لإنهاء برنامج أطلق عليه “الحالمين” وأصدره الرئيس السابق أوباما بهدف إعفاء مئات آلاف الأطفال من أبناء المهجرين غير القانونيين وتجنيسهم تلقائياً وتسوية أوضاع إقامتهم وفق شروط معينة، ويواجه معركة قاسية مع الحزب الديموقراطي للتوصل إلى تسوية في ملف المهاجرين.
دعوات الإزاحة من الرئاسة بين الواقع والأمنيات
استحدثت المادة 25 من التعديل الدستوري في أعقاب اغتيال الرئيس جون كينيدي، لتمهّد سبل انتقال السلطة في ظروف غياب الرئيس أو نائبه عن المشهد في حالات الوفاة والعزل والاستقالة أو العجز عن القيام بالمهام، وجرى تطبيق نصوصها، أو بعضها كما في حال الرئيس الأسبق نيكسون.
قسم لا بأس به من السياسيين يفضّل ذاك الخيار في حالة ترامب، نظراً للأسس الدستورية التي لا يشق لها غبار واختصارها للجدل الزائد عن الحدّ. البند الرابع من التعديل يمهّد بعض الشيء للمضي في نقل السلطة إلى نائب الرئيس، إذ ينص على أن “يقدم نائب الرئيس بالتعاون مع غالبية من المسؤولين الرئيسيين في السلطة التنفيذية إشعاراً خطياً للرئيس المؤقت لمجلس الشيوخ ورئيس مجلس النواب يفيد بأنه يتعذر على الرئيس ممارسة صلاحياته ومهامه، يتعين على نائب الرئيس تسلم الصلاحيات على الفور كرئيس بالوكالة“.
بكلمة أخرى، باستطاعة نائب الرئيس مايك بنس التعاون مع غالبية وزراء الحكومة للإقرار بأن الرئيس ترامب لم يعد كفؤاً أو مؤهلاً للاستمرار في منصبه؛ وتنقل إليه الصلاحيات تلقائياً. بيد أن الإشكالية الأكبر في هذا التعاون تكمن في نص المادة المذكورة بإتاحتها الفرصة “للرئيس الدفاع عن نفسه أمام اتهامه بالعجز“.
كما أن الفرصة الزمنية المطلوبة لذلك والمنصوص عليها قد تعمل لمصلحة ترامب بدلاً من العمل ضده. إذ ينبغي على الكونغرس الانعقاد خلال 48 ساعة بعد تسلمه الإخطار الخطي لمناقشة الأمر، في حال عدم انعقاده اعتيادياً؛ وهو ملزم بعقد جلسة للتصويت خلال 21 يوماً والتصويت بأغلبية ثلثي أعضاء المجلسين لصالح الإخطار وتطبيق المادة الخاصة بنقل السلطة إلى نائب الرئيس. وفي حال تعذر ذلك، يستمر الرئيس في منصبه.
تجدر الإشارة إلى أن الفترة الزمنية الطويلة نسبياً 21 يوماً، الخاصة بقرار الكونغرس تنطوي عليها مخاطر سياسية قد تؤدي لشلل عمل الحكومة وأجهزتها المختلفة، وقد تدفع مؤيدي ترامب القيام باضطرابات مدنية.
المراهنة على ذاك الخيار ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار انتشار محتلف أنواع الأسلحة “المرخصة” بأيدي “جمهور ترامب” الذين لن يتخلفوا عن استخدام ما لديهم من موارد وإمكانيات ضد رموز الدولة، أشخاصاً وكيانات ومؤسسات. ولعل الأخطر ما تفرضه الظروف المتجددة من ضغوط على “الرئيس بالوكالة” تضعه أمام خيارين أحلاهما مر: إما تقديم الاستقالة أو إخلاء المنصب والفرار.
بالمحصلة، لا يعتقد بأن هذا السيناريو قابل للتطبيق في أي وقت منظور على الأقل أما التسريبات الصحفية المضادة رغم ما ينطوي عليها من بعض المصداقية، فلا تشكل أرضية كافية حالياً لتقديم ترامب للمحاكمة. ويتعدّل الأمرعندما تتوفر أدلة مادية قاطعة ومقنعة في آن، بأن ترامب غير مؤهل للمنصب الرئاسي.
كما أن موجة الاحتجاجات الكبيرة التي اندلعت فور تسلم ترامب مهام منصبه شهدت تراجعاً ملحوظاً، فضلاً عن عدم تجذر مطالب شعبية محقة بإقصائه خارج المناطق “الليبرالية التقليدية” المتمثلة بمعظم ولايات الساحل الشرقي وبعض ولايات الساحل الغربي للبلاد.
ترامب، من جانبه، يحرص على استحضار الرفض الشعبي “غير المنظم” لسيطرة ونفوذ الحكومة المركزية، وتسخيره في خدمة أجندته ضد التوجهات “الرسمية التقليدية”. يبقى أن نشير مرة أخرى إلى أن نتائج الانتخابات النصفية القادمة في تشرين الثاني/ نوفمبر أو الكشف عن جوانب خطيرة في التحقيقات الجارية من قبل المحقق الخاص روبرت موللر قد تقرر مستقبل ترامب في البيت الابيض.