ايران في عين العاصفة الأميركية د.منذر سليمان
لم يخفِ الرئيس ترامب حقيقة موقفه داعماً ومؤيداً للمظاهرات التي اجتاحت ايران في الساعات الأخيرة لأفول العام الماضي وبزوغ العام الجديد، ولم يكترث كالعادة بمجانبة الصواب في ملامسة الأسباب الحقيقية على خلفية تراجع الأوضاع الإقتصادية بقوله مغرداً “.. لقد اتخذ الناس موقفاً حكيماً من أن أموالهم تسرق وتبذر لدعم الإرهاب .. ويبدو أنهم لم يحتملوا ذلك.” رافقها تصريح لوزارة الخارجية الأميركية بالقاء المسؤولية على كاهل القادة الإيرانيين الذين “حولوا البلاد من دولة ثرية .. إلى دولة منهكة اقتصاديا ..”
سنحاول باختصار تسليط الضوء على ما تحتله إيران من موقع متقدم في استهدافات الإستراتيجية الأميركية، ومساعي واشنطن المتواصلة لتقويض نظام الحكم واسترداد ما فقدته من نفوذ منذ سقوط الشاه – واحتضانها لنجله والدعوة لعودته برفقة قوى إيرانية معارضة أخرى تناصب طهران العداء، إلى جانب تحشيد “حلفائها” من دول الخليج لزعزعة الاستقرار الداخلي.
بداية، ينبغي النظر الى سياسة واشنطن “بالحصار وفرضها عقوبات” مشددة على إيران، والمطالبة بالمزيد كلما سنحت الفرصة السياسية، كأحد أسباب الأزمة ولدورها بإعاقة إطلاق جهود التطور الإقتصادي وتحسين سبل المعيشة والاستثمار الداخلي؛ فضلاً عن نفوذ واشنطن لدى “حلفائها” الاوروبيين تحديداً وتحذيرهم بعدم الانفتاح على طهران – حتى بعد التوصل للإتفاق النووي.
في تطور موازي، لفتت الناطق باسم الخارجية الأميركية، هذر ناويرت، (30 كانون أول / ديسمبر 2017) الأنظار الى شهادة قدمها وزير الخارجية ريكس تيلرسون أمام لجان الكونغرس في شهر حزيران محورها إيران بقوله أنه يدعم العناصر الموجودة داخل إيران والتي “ستقود نحو تغيير سلمي في الحكومة.”
ربما التطور الأبرز في الآونة الأخيرة ما كشفته في تقريرها يومية وول ستريت جورنال، 4 كانون الثاني / يناير 2018، عن لقاء جمع مستشار الأمن القومي هيربرت ماكماستر بنظيره “الاسرائيلي،” مئير بن شاباط، في البيت الأبيض يوم 12 كانون الأول/ ديسمبر 2017، وقّعا فيه على “بروتوكول سري” لتنفيذ خطوات ملموسة ضد إيران “تترجم” الاستراتيجية الأميركية المناهضة لإيران التي أعلن عنها الرئيس ترامب يوم 13 تشرين الأول / اكتوبر 2017.
يشار إلى أن ترامب حَصَرَ توجهه آنذاك نحو إيران في محطتين: الأولى تتلخص في الأمتناع عن التصديق على التزام إيران بتنفيذ تعهداتها المنصوص عليها في الإتفاق النووي – كما يقتضي القانون الأميركي؛ والثانية التوجه نحو إلغاء الإتفاق من جانب واحد. وذلك بخلاف تصريحات رئيس هيئة الأركان الأميركية جوزيف دانفورد حينئذ بأن “إيران لم تنتهك نصوص الإتفاق.”
سياسة “تغيير النظام” في إيران هي القاسم المشترك في سياسات واشنطن المتعاقبة الى جانب أبرز حلفائها الإقليميين “اسرائيل والسعودية؛” وقدمت دعماً إعلامياً لامحدوداً لشعارات المحتجين في “الحرية والديموقراطية وتحسين ظروف المعيشة وضد البطالة،” وإعلائها مجتمعة لقوى إيرانية معارضة متمثلة بنجل الشاه، علي رضا بهلوي، ومنظمة “مجاهدي خلق” التي ترعاها واشنطن وباريس بصورة علنية، ودفع مؤيديها للمواجهة خارج إطار الأحتجاج السلمي عله يدفع الطرف الرسمي لمواجهات عنفية تشكل أرضية تدخل مبررة من الأطراف الخارجية، كما شهدت سيناريوهات “الربيع العربي.”
“سياسة الولايات المتحدة ينبغي أن تتمحور حول تغيير النظام في إيران،” عبر عنه عضو حزب الشيوخ النافذ عن الحزب الجمهوري توم كوتن، وشاطره الرأي أقطاب اليمين بكافة تلاوينه السياسية. بل انضمت صحيفة واشنطن بوست “الليبرالية” إلى جوقة التأييد بافتتاحية عددها يوم الأول من كانون الثاني الجاري بالزعم أن “..الرئيس ترامب كان على حق لإعلان تأييده للمتظاهرين عبر تغريداته.”
ما يعزز الاستنتاجات السابقة أعلاه تعيين إدارة ترامب منتصف العام الماضي (مايكل دآندريا) تسلم وإدارة ملف إيران داخل وكالة الإستخبارات المركزية، كما أوضحه تقرير ليومية نيويورك تايمز، 2 حزيران / يونيو 2017، وتكليفه “بترجمة الموقف المتشدد (للإدارة) تجاه إيران” بخطوات وإجراءات ميدانية تزعزع استقرار وتماسك نظام الحكم في طهران.
بيد أن مهام (دآندريا) ليست الوحيدة في سلسلة سياسات أميركية “ترعاها وكالة الإستخبارات المركزية” ترمي للإطاحة بالنظام الإيراني، ربما ليس في المدى المنظور بل بتشديد الحصار الدولي عليه ورعاية الإحتجاجات الشعبية وإشغاله بقضاياه الداخلية حصراً. جدير بالذكر ايضاً ما صرح به مدير وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية، مايك بومبيو، منتصف شهر تموز/يوليو 2017، بأنه استحدث مركز عمليات جديد في مقر الوكالة مهمته “تضييق الخناق” على إيران.
يشار إلى أن من “أبرز” نجاحات (دآندريا) كان إغتيال عماد مغنية “بالتعاون مع إسرائيل،” وإدارته برنامج إغتيالات الكفاءات العلمية الإيرانية، في عهد الرئيس السابق اوباما، قبل أن يوعز الأخير الى تجميد البرنامج خلال المفاوضات على الملف النووي، وقتل “آلاف الجهاديين مع مدنيين في باكستان وأفغانستان (واليمن) بطائرات من دون طيار،” وفق توصيف الصحيفة المذكورة. كما شارك في اعتقال واستجواب وتعذيب نزلاء معتقل غوانتانامو.
من بين الإجراءات المتداولة داخل إدارة الرئيس ترامب عقب أفول زخم الاحتجاجات الشعبية المناهضة لطهران “إعداد سلسلة إضافية من العقوبات الاقتصادية، وإعادة تفعيل تلك التي رُفعت سابقاً ..” مما يعني الإطاحة بالاتفاق النووي، وفق مصادر اسبوعية ذي نيشن الأميركية، 4 كانون الثاني / يناير 2018.
لغة الأرقام تفند المزاعم
قيل الكثير حول المظاهرات التي اندلعت في خراسان، 28 ديسمبر، تمددت في اليوم التالي الى شمال وغرب البلاد، ورفعت شعارات في مشهد قالت عنها وسائل الإعلام الغربية انها رصدت أحدها في كرمنشاه، بالقرب من الحدود العراقية، يقول “الشعب يتسول، ورجل الدين يتصرف كإله.”
وتناقلت العديد من وسائل الإعلام الأميركية ما أكده سماحة السيد نصرالله في مقابلته الأخيرة مع قناة “الميادين” أن أكثر من 150 ألف عائلة مشهدية خسرت أموالها في مشروع (شانديز) السكني، وكذلك إعلان إفلاس عدة مصارف في ظروف وملابسات مشبوهة.
المرشح السابق للانتخابات الرئاسية عام 2017، إسحاق جهانغيري، الذي انسحب آنذاك لصالح الشيخ حسن روحاني، اتهم “المحافظين” بتنظيم الاحتجاجات بالوكالة – أي أركان الدولة المناهضة لواشنطن. جهانغيري كان أيضا من منظمي الثورة الملونة عام 2009، وكان عضواً في فريق حملة مير حسين موسوي الإنتخابية.
“حكومة الرئيس روحاني كانت تعوّل على مردود ايجابي كبير للإتفاق النووي،” كما أجمعت عليه دوائر صنع القرار الأميركي وآخرين “.. بدءأ باستثمارات فرنسية في قطاع الطاقة وعقد صفقة للطائرات المدنية مع شركة بوينغ الأميركية.”
الأسباب الإقتصادية الكامنة وراء التحركات الأخيرة أضحت محل إجماع خبراء السياسة والاقتصاد على نحو شامل. ونشير ادناه إلى بعض ما جاء في أبحاث استاذ مادة الاقتصاد في جامعة هارفارد، جواد صالحي إصفهاني، إيراني الأصل، ويعد مرجعاً للدراسات الرصينة.
بداية يشير إصفهاني الى التعويل الجمعي لمردود الإتفاق النووي على مجمل الاوضاع الاقتصادية بأنه “.. سينعكس بشكل ملموس على بيانات معدلات المعيشة ” والتي بدأ اعدادها في شهر آذار 2016.
ويضيف ان التوزيع الديموغرافي في عموم الدولة الايرانية يشير الى أن طهران يقطنها نحو 16% من مجموع سكان البلاد؛ والمدن الأخرى يقطنها نحو 58%، بينما سكان الريف تقدر اعدادهم بنحو 26%. اما مردود “ظاهرة الاتفاق النووي” الموعود فقد أسهم بارتفاع النمو الاقتصادي لنحو 11%، منذ توقيعه عام 2017 وإلى الآن. ويستدرك أن المستفيد الأكبر كان قطاع التجار في طهران تحديداً مما يفسر “عملياً” عدم إنضمام طهران للاحتجاجات كما كان عليه الأمر عام 2009.
وأردف أن معدلات الفقر شهدت “ارتفاعاً حاداً في السنة الأولى من عهد الرئيس روحاني ولا تزال،” استناداً الى المعايير المعتمدة: مستوى الفقر للفرد في طهران 7 دولارات يوميا؛ 5 دولارات في المناطق المدنية الأخرى؛ و 3.6 دولار في المناطق الريفية.
وشدد إصفهاني على أن معدلات الفقر العام في عموم إيران “متدنية إذ بلغت نسبتها 4.7%” لعامي 2016/2017. وأضاف معللاً “.. لا أستطيع استساغة تفسير البعض لأسباب الإحتجاجات الأخيرة بأنها تعود لارتفاع معدلات الفقر؛ بل لمعدلات بطالة وإخفاق تحقيق التوقعات الإقتصادية وليس لمعدلات فقر عالية.” (التشديد مضاف).
قوى “المعارضة المعتدلة” التي تدعم الإتفاق النووي، وتتخذ من واشنطن مقراً لها، سلطت سهام انتقاداتها على الرئيس ترامب الذي “.. لم نرى منه سوى العداء تجاه الشعب الإيراني منذ تسلمه ولايته الرئاسية.” ومع ذلك، أضافت، فإن الرئيس “ترامب أسهم في تأجيج مزيج متفجر من العوامل التي أنجبت الاحتجاجات في إيران.”
ماذا بعد
استهل نائب الرئيس الأميركي، مايك بينس، مطلع العام الجديد بتوجيه رسالة متلفزة يوم 3 كانون الثاني / يناير الجاري، شدد فيها على نزعة العداء الأميركية لإيران واتهامها بأنها “الدولة الرائدة في رعاية الإرهاب عالمياً .. ونريد أن يخرج شعب إيران من تحت (نير) نظام لا يزال يهدد العالم ويهدد بتطوير أسلحة نووية.”
وسبق ذلك التاريخ بأيام معدودة توجيه مذكرة جماعية من 22 من ضباط الاستخبارات السابقين الى الرئيس ترامب وإدارته يعربون فيها عن قلقهم من رفع الإدارة الأميركية منسوب العداء لإيران التي “لا تشكل تهديداً حتمياً” للولايات المتحدة.
ووجهت المجموعة المنضوية تحت لواء ضباط استخبارات مهنيين (يدعون) للتعقل نصيحة للرئيس ترامب بإعاد النظر في خطابه السياسي المستند إلى تصنيف إيران “في مقدمة الدول العالمية الراعية للإرهاب .. والذي نعتبره إدعاءاً خاطئاً وغير دقيق.”
كما حثت المذكرة الرئيس الأميركي “الاقتداء بتحذير الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن قبل نحو 15 عاماً، عند نقطة انعطاف تاريخية مشابهة،” وإقراره لاحقاً في مذكراته محطات قرار بأنه لم يشعر بالاطمئنان لاتخاذ قرار “بتدمير منشآت نووية لدولة قالت الأجهزة الإستخباراتية الأميركية بأنها لا تملك برنامجاً فاعلاً للأسلحة النووية.”
يشكل يوم الثالث عشر من الشهر الجاري تاريخاً مفصلياً فيما يتعلق بمصير الاتفاق النووي أميركيا، إذ من المقرر أن يتخذ الرئيس ترامب قراره بشأن “المصادقة من عدمها” وتحويل المسألة للكونغرس، وفق ضوابط القوانين الأميركية التي صيغت بعد التوقيع الدولي على الإتفاق. ومن المرجح أن يضغط أقطاب مناهضة الأتفاق بقوة على عدم المصادقة وحرمان إيران من استعادة ثرواتها المصادرة وتضييق حيز النمو الإقتصادي المنشود.
عودة لمقابلة نائب الرئيس بينس، 3 الشهر الجاري، أجاب بوضوح شديد حول “التوقعات المستقبلية” بأن ترامب لن يعيد التصديق على الاتفاق النووي (التشديد مضاف)، وسيتعين (عليه) إتخاذ قرار ما إذا كنا سنواصل تعليق العقوبات أم لا؛ مستدركاً أن “العقوبات تؤتي أكلها فيما يخص إيران؛ والإدارة ملتزمة التزاماً مطلقاً بمواصلة استخدام النفوذ الاقتصادي الكامل للولايات المتحدة والعقوبات الإقتصادية ضد ايران .. العقوبات القائمة اليوم تشجع شعب إيران على التحلي بالشجاعة” لمواصلة الاحتجاجات.