ترامب وحلم تعويم الامبراطورية ليلى نقولا
كل ما ظهر لغاية اليوم من سلوك ترامب وإحراجه في الداخل، والذي ينعكس على أدائه في الخارج، يشير الى صعوبة استعادة “مجد الامبراطورية” العالمية التي تحكم العالم منفردة أو تتميز بقدرة تفوق كبيرة على أقرانها .
كانت الهزيمة التي تلقاها الرئيس الأميركي ترامب في الأمم المتحدة في التصويت على قرار القدس، مؤشراً إلى تراجع قوة التأثير الأميركي في العالم، خاصة بعدما قام ترامب ومندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بتهديد الدول المصوّتة بتسجيل الأسماء لقطع المساعدات عنها، كعقاب لتحدّي القرار الأميركي. وبالرغم من كل التهديدات، حصل القرار على أغلبية الثلثين لتمريره، واستطاعت فلسطين أن تضيف الى سجلها الدولي قراراً أممياً يضاف إلى القرارات الأممية السابقة التي حصدتها ضد اسرائيل ولم تنفذ.
ولقد أتى التصويت في الأمم المتحدة على مسافة أيام من إعلان ترامب استراتيجيته للأمن القومي، والتي أعلن فيها عن خطته لاستعادة “مجد أميركا”، بالاضافة الى ما عبّر عنه خلال حملته الانتخابية تحت شعار “أميركا أولاً”. واللافت أن الاستراتيجية المعلنة لم تشي بأي عودة إلى العزلة، بل بالعكس حددت في ركيزتيها الثالثة والرابعة كيفية زيادة النفوذ الأميركي في العالم وذلك من خلال التركيز على الدعامات التقليدية “العسكر والاقتصاد”، وإغفال كل التحديات أو الوسائل الجديدة.
ونستنتج من خلال مقارنة استراتيجيتي ترامب وأوباما أن التغيير يبدو في الوسائل وليس في الأهداف؛ فيستمرّ الهدف الرئيسي لكلا الاستراتيجيتين “تقوية النفوذ الأميركي في العالم وتكريس الامبراطورية العالمية”، وهو يوجب زيادة النفوذ الأميركي في العالم وفي المناطق الاستراتيجية الاقليمية، وتحجيم المنافسين العالميين، وهما الصين وروسيا. وإذا كان هدف إحتواء الصين هو أساس استراتيجية أوباما التي عنونها “التحوّل نحو آسيا”، فإن إدراج روسيا اليوم كمنافس إضافي مرده الى سببين: الأول رغبة ترامب في إسكات الأصوات الداخلية التي تتهمه بمحاباة روسيا، والثاني تحوّل روسيا في السنوات الأخيرة الى لاعب رئيسي لا يمكن تخطيه في الشرق الأوسط.
والفارق بين استراتيجيتي ترامب وأوباما قبله، أن ترامب أفسح حيّزاً مهماً وأعاد الاعتبار للقوة العسكرية كقوة مركزية أولى لاستعادة الدور الأميركي في العالم والتركيز على القوة الاقتصادية والتجارة الدولية، بينما كان أوباما قد أقرّ تخفيض الانفاق العسكري، وأعلن نهاية عصر خوض الحروب البرية ومكافحة التمرد وعمليات بناء الدول المتعثرة، والتحول الى تجديد القوة الاقتصادية لأميركا التي اعتبرها الرئيس الاميركي انها ” أساس القوة الاميركية في العالم”، وأعلن عما أسماه “القوة الذكية” والتي كانت مزيجًا من الاستثمار في القوة الصلبة، والناعمة، واستخدام التنمية لزيادة التأثير عبر المساعدات التي تقدمها USAID.
لكن المشكلة التي يعانيها ترامب اليوم، أن استراتيجيته تبدو مضرّة لإعادة تعويم الامبراطورية أكثر مما هي مفيدة، إذ أن الدراسات تشير أن الأسباب الرئيسية لأنهيار الامبراطوريات التاريخية في العالم، مردها الى عوامل مشتركة، أهمها:
– العامل الأول اقتصادي: ويتلخص بفقدان القدرة التنافسية والإنتاجية وتجاوز بلدان أخرى للإمبراطورية اقتصادياً، وخاصة عندما يصبح انفاقها العسكري أكثر من قدرة اقتصادها على تحمّله فتصبح القوة عندئذ رهاناً بحد ذاته.
– العامل الثاني: حالة التوسع المفرط في الهيمنة الخارجية التي تصبح أكثر من قدرتها على الاضطلاع به والتي تؤدي إلى بعثرة القوة الإمبراطورية، ما يؤدي إلى إرهاقها اقتصادياً. وهذا الإرهاق سينعكس على الميدان العسكري، فتلحق بها هزيمة عسكرية، عندئذٍ يصبح شعب الإمبراطورية غير مقتنع ولا مؤيد للهيمنة والتوسع الإمبراطوري، بل يبحث عن أمنه الداخلي كما حدث للإمبراطورية السويدية والبرتغالية.
وإذا عطفنا العاملين الأول والثاني، نجد أن ترامب وعى بشكل جيد لخطر فقدان القدرة التنافسية في المبادلات التجارية العالمية وحاول معالجتها في استراتيجيته، لكنه في المقابل زاد في الانفاق العسكري ولم يقلصه، علمًا أن الحملة الانتخابية لترامب استثمرت بشكل كبير انعدام رغبة الشعب الأميركي بالتوسع العالمي والتركيز على الأمن والاستقرار الداخليين بدل زيادة التدخلات في الخارج ومحاولات تغيير الأنظمة التي استنزفت القدرات الاميركية، وهو جزء أساسي من العامل الثاني.
كل ما ظهر لغاية اليوم من سلوك ترامب واحراجه في الداخل والذي ينعكس على أدائه في الخارج، يشير الى صعوبة استعادة “مجد الامبراطورية” العالمية التي تحكم العالم منفردة أو تتميز بقدرة تفوق كبيرة على أقرانها، فالقوى الكبرى والعظمى هي ببساطة تلك التي تمتلك من القوة وأدواتها ما لا يملكه منافسوها، اذ ان القوة الدولية علائقية ونسبية؛ لا تظهر إلا في ظل علاقات بين وحداتها، بالتالي لا يمكن وصف دولة بأنها قوية أو ضعيفة إلا مقارنة مع دول أخرى، وهنا تبدو الولايات المتحدة قوية نسبيًا، وليس بشكل اطلاقي، ولا يبدو أنها ستصبح كذلك.