صفقة عودة الحريري والوصاية
غالب قنديل
طغت في نهاية العام الماضي موجة التباهي اللبناني بأجواء التضامن الوطني التي حررت رئيس الحكومة سعد الحريري من محبسه السعودي الذي يتكتم على تفاصيله المهينة دون شك وهذا التباهي له محله في الفهم والمشروعية بالنظر إلى كسر نمطية الإذلال السياسي للبنانيين في ثقافة التسول التقليدية التي مارسها غالبية الزعماء اتجاه “مملكة الخير” منذ فجر الاستقلال الافتراضي الذي حبك تبعية النظام اللبناني الطائفي لثنائية الغرب والخليج معبرا عنها بكل من فرنسا فالولايات المتحدة وبصورة ثابتة بالمملكة السعودية.
المسكوت عنه تحت ستارة سميكة من التكتم الدبلوماسي والسياسي داخليا وخارجيا هو شروط الإفراج السعودي عن رئيس الحكومة المحتجز والتي اختصرت بمعزوفة النأي القابلة للتأويل بل والتي تكسرها عبارات الإذعان للمملكة في اكثر من مجال بما في ذلك الرضوخ لشرط الامتناع عن اتخاذ موقف سياسي واخلاقي ( في بلد التفاخر بالقيم الإنسانية ) مناسب من جريمة العصر المتمثلة بذبح الشعب اليمني عن بكرة أبيه بل والانطلاق مسبقا بتبني ما تصفه المملكة جهارا بما يوصف بتدخل حزب الله السياسي والإعلامي ودعمه للحفاة العراة المدافعين عن بلدهم ضد العدوان الأميركي السعودي البربري وسط صمت العالم وتواطئه المشين وقد تواصلت المعزوفة رغم ظهور وقائع صارخة تفقأ العين عن كذب الرواية السعودية المزعومة حول مصدر الصاروخ اليمني الذي أصاب مدينة الرياض وبشهادة خبراء الأمم المتحدة المعروفين بانحيازهم الصارخ لحلف العدوان الذين اكدوا في تقرير رسمي امتلاك الجيش اليمني لمخزون صاروخي كبير ولخبرات كافية في استخدام هذا السلاح.
يظل السؤال أبعد من تعهد الحريري بعدم البوح بتفاصيل يوميات الاختطاف بل في الفدية الكبرى التي طلبتها واشنطن وبالتالي ما هي الضمانات التي تفاهمت عليها فرنسا والولايات المتحدة مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مقابل ترك الحريري وضمنت تقيد رئيس الحكومة بها وطرحها كثمن لتحريره يطلب دفعه من الحكومة اللبنانية مباشرة وهي الضمانات التي تم التوافق عليها بين الرياض وباريس وواشنطن خلال الساعات العصيبة التي سبقت إقلاع طائرة رئيس الحكومة إلى باريس ثم إلى مصر وقبرص فبيروت.
هذا لا يعني أبدا فهما مقلوبا لعلاقة التبعية السعودية للغرب فالحاصل أن التدخل الأميركي الفرنسي استهدف تحقيق إفراج مشروط عن الحريري يرسم سقفا سياسيا مناسبا لاستراتيجية الغرب في المنطقة أي أنه يناسب السعودية وفرنسا والولايات المتحدة والغاية المحورية لا تزال هي ذاتها منذ سنوات أي منع لبنان الرسمي من تطوير علاقاته بدول محور المقاومة وهذا يشمل سورية وإيران إلى جانب العراق بل هو يشمل كذلك الصين وروسيا وهذا هو مضمون التعهد السياسي اللبناني الذي كرسته مؤخرا تصريحات جميع المسؤولين فالمقصود بالنأي ليس كما يروج تيار المستقبل وقف التدخلات المنسوبة إلى حزب الله وفق المزاعم السعودية بل الامتناع عن أي تطوير لعلاقات لبنان الاقتصادية والسياسية بكل من سورية والعراق وإيران وروسيا والصين بدون إذن او موافقة من ثلاثي الوصاية الأميركي الفرنسي السعودي والهدف الأميركي من ذلك الاشتراط الذي رضخت له السلطات اللبنانية أهم بكثير من الغايات السعودية الداخلية المالية والسياسية التي توخاها بن سلمان من اختطاف الحريري وإجباره على تلاوة بيان استقالته لنزع حصانته الدبلوماسية في مناخ تصفية الحسابات داخل العائلة المالكة.
بصراحة بعد هذه الصفقة بات لبنان تحت الوصاية انطلاقا من شروط ترك ولي العهد السعودي لرئيس حكومته وكلما شاءت الرياض انتزاع تنازلات جديدة سوف تضغط اكثر على رئيس الحكومة وعائلته وممتلكاته ومصالحه في المملكة لابتزاز لبنان برضاه ام بعدمه.
تحقيق المصالح اللبنانية سياسيا واقتصاديا والتمسك بالسيادة اللبنانية في رسم الخيارات والقرارات السيادية هو ما يجب ان يتمسك به اللبنانيون على توقيتهم وليس على التوقيت السعودي او الفرنسي او الأميركي وليس ما يدعو للتباهي في التقيد بشروط هذه الوصاية الجديدة مع كل الاحترام لمشهد الكرامة والتضامن الذي حققه الرئيسان ميشال عون ونبيه بري بعد اختطاف الرئيس الحريري لكن ما هو قائم بعد تلك التجربة وصاية خارجية على خيارات لبنان الإقليمية ينبغي الانعتاق منها والتحرر من نيرها دفاعا عن الاستقلال والحق في الاختيار فمن يختطفون القرار اليوم هم حلفاء الصهاينة وشركاؤهم ومثيرو الحروب وداعمو الإرهاب في المنطقة والقوى الإقليمية والدولية التي يحظرون علينا مشاركتها هي التي تقدم للبنان فرصا كبيرة من النمو والإزدهار والاستقرار وهي شريكة في مجابهة التهديد الصهيوني والخطر التكفيري الإرهابي ولكل زمن يفوت ثمن.