ترامب يكذب… ليست استراتيجية: ناصر قنديل
عندما يستعمل رئيس دولة بحجم أميركا مصطلح الاستراتيجية الوطنية للأمن القومي ويقرأ وثيقة أعدّتها أجهزة الأمن والدبلوماسية والجيش، فهذا يستدعي التعامل مع النص بعيداً عن التوظيف السياسي التكتيكي كمشروع مبني على قواعد علمية للتعبير عن مصالح الدولة التي تعلن المشروع بمعزل عن مدى مشروعية هذه المصالح .
أن تكون المصالح الأميركية غير مشروعة شيء، وأن يكون مشروع الاستراتيجية كذبة شيء آخر، فدائماً أو غالباً كانت المصالح الأميركية غير مشروعة، لكن كان لأميركا دائماً أو غالباً مشروع واستراتيجية، لكن هذه المرة ليست القضية بالمصالح وعدم مشروعيتها فقط، بل في الأصل بالكذب عند الحديث عن مشروع واستراتيجية.
ما أعلنه دونالد ترامب كاستراتيجية هو مجموعة شعارات تكتيكية أغلبها له طابع تفاوضي ولا يحمل صفة الثبات التي تتّصف بها الاستراتيجية. ففي الاستراتيجية لا مكان للحديث عن روسيا حليف وخصم وعن الصين شريك وعدو وعن إيران بالمفرّق بين الملف النووي وملف الصواريخ. فهذه قصاصات صحف وليست استراتيجية.
يقول ترامب عبر قصاصات الصحف المسمّاة استراتيجية إنّ إدارته تعتبر إيران أكبر داعم للإرهاب في العالم، وإنها أكبر مصنع للصواريخ خطراً على أميركا وحلفائها، وإنّ ما تفعله في المنطقة الحيوية لمصالح أميركا من توسيع نفوذها خطر على الأمن القومي الأميركي، وهذا يستدعي في حال كان ما يقدّمه الرئيس الأميركي استراتيجية، أن يعلن الرئيس الأميركي فوراً إلغاء التوقيع الأميركي على التفاهم النووي مع إيران، وأن يعلن أنّ قواته في العراق ستواجه التمدّد الإيراني وأنه يدعو الحكومة العراقية لحسم الموقف بين التعاون مع إدارته وقواتها أو الحكومة الإيرانية وحرسها الثوري، وأن يعلن أنّ قواته ستبقى في سورية لمقاتلة إيران وحلفائها، وأن يوجّه الدعوة لحكومة إقليم كردستان في العراق للتمسّك بالاستفتاء على الانفصال واضعاً الدعم الأميركي لها ضمانة بوجه تهديدات بغداد وطهران وأنقرة، وأن يقرّر إرسال قواته العسكرية للانتشار في اليمن على باب المندب وساحل البحر الأحمر ويعتبر بقاءها شرطاً لأيّ حلّ سياسي في اليمن.
أن يكون ما أعلنه ترامب استراتيجية، يستدعي أن يقيّم هو وإدارته ما أسماه الأفعال المزدوجة لروسيا والصين، ويُصدر تقييمه بحصيلتها، فيوجّه إنذاراً لهما بوقف التعاون مع إيران وكوريا الشمالية، وإلا صارا على لائحة الأعداء، أو أن يصنّفهما كصديقين وحليفين، فيدعوهما للمساهمة في حلّ مشكلات العلاقة بإيران وكوريا، عبر التفاوض، بعيداً عن رنين الكلمات الخطابية، كالقوة تبني السلام.
تتسم الاستراتيجية بتحديد العدو وإخضاع الخصومات لقاعدة تخييرها بين الشراكة في مواجهة العدو كحلفاء محتملين أو الانضمام لجبهة العدو، والاستعداد لتقبّل معاملة الأعداء. وهذا ما لم ترد استراتيجية عليه شكلاً ومضموناً، لا في حالة داعش، ولا في حالة إيران، ولا في حالة كوريا الشمالية. وفي الحالات الثلاث لم يقل ترامب مَنْ العدو الرئيسي، داعش والقاعدة أم إيران أم كوريا الشمالية أم ثلاثتها، ولم يضع العلاقة مع روسيا والصين في دائرة الحسم بناء على هذا التحديد. كل ما فعله هو خطاب رنان ضدّ إيران وكوريا وتذكير بداعش، وكلام إنشائي عن روسيا والصين، وفي كلّ هذه العناوين كلام يصلح لتغريدات تويتر، وليس لرسم استراتيجية.
أيهما أهمّ لأميركا الحفاظ على استقرار الشرق الأوسط، كمنطقة حيوية للسياسات والمصالح، أم الحفاظ على توازن قوى راجح لحساب أميركا وحلفائها. والخيارات الآن هي هنا، وعلى الجواب تبنى الاستراتيجية بمعزل عن إنشائية اللفظات الوصفية للقوى التي يترتّب على خيار أولوية الاستقرار التعاون معها، ويترتّب على أولوية رجحان كفة القوة لصالح أميركا وحلفائها المواجهة معها، وفي قلب هذه القوى إيران، وفي قلب ساحات التعاون والمواجهة سورية والعراق، فهل قال ترامب جواباً على أي من هذه الأسئلة؟
هل يمكن تخيّل استراتيجية أميركية تخلو من تقديم جواب على تقييم الصراع العربي «الإسرائيلي»، كأدق مسائل المنطقة وأعقدها وأشدّها راهنية، وأعلاها حرارة بحكم السياسات الأميركية، والتي كان على الاستراتيجية شرحها ورسم إطارها، فهل تنعى واشنطن عملية السلام التي كانت دائماً في قلب استراتيجياتها، أم ترسم لها سقوفاً جديدة، والأصل بالجواب هو تحديد الشريك الواقعي والممكن على الضفة العربية والفلسطينية، طالما أن الشريك المقابل حكماً هو «إسرائيل»؟ وهل هناك شريك فلسطيني بمواصفات أميركا للسلام التي رسم سقفها قرار ترامب حول القدس؟ وهل يكفي التحالف السعودي «الإسرائيلي» لسدّ هذا الفراغ فلسطينياً؟ وهل يمكن بناء استراتيجية عالمية بلا استراتيجية شرق أوسطية، وفي قلبها قضية فلسطين، كعامل لصناعة الاستقرار ومصدر لإشعال الحروب؟
ما فعله ترامب هو مجرد رسالة تصعيدية خطابية لشدّ العصب في حلقة مواجهة تكتيكية مع إيران، لا يريد لها أن تخرج عن السيطرة إلى مواجهة مفتوحة، ولا إلى التحوّل مصدر إغضاب لروسيا والصين، وخسارة وساطتيهما في الملف الكوري الشمالي، أو سبب لتعريض قواته في سورية والعراق للخطر، مواجهة تكتيكية ترسم حدود التوازنات، التي تسبق التسويات، حتى لو كانت ساخنة وحارة، فهي يجب أن تبقى محكومة بالمساكنة التي تفرضها الجغرافيا، كما يقدّمها المشهد العراقي، الذي يكفي وحده لتكذيب نص الخطاب الأميركي.