في مواجهة ترامب- منير شفيق
كان من المفترض بدونالد ترامب أن يأخذ القرار الذي أعلنه في 6 كانون الأول/ ديسمبر، باعتبار القدس “عاصمة إسرائيل”، منذ الأشهر الأولى من تسلمه الرئاسة. وذلك أسوة بوعوده الأخرى التي نفذها وكان قد اتخذها، كما فعل مع هذا القرار أثناء معركته الانتخابية. ولكنه أجله وتريث بسبب تحذيره من عواقبه، سواء أكان من مستشاريه أم كان من جانب أطراف أخرى. ولهذا يتوجب السؤال: لماذا أخذ ترامب هذا القرار اليوم ولم يؤجله؟
ومما يزيد من صعوبة الإجابة عن هذا السؤال؛ ما سبقه لآخر لحظة قبل إعلانه، من تحذيرات وضغوط هائلة فلسطينية وعربية وإسلامية وأوروبية ودولية، تؤكد له أن عواقب هذا الإعلان ستكون غير محمودة. ولو كان مكانه أي رئيس آخر عنده حس سياسي، ولو في الحد الأدنى، لما أقدم على هذه الخطوة الهوجاء غير المحسوبة، حتى من زاوية المصلحة الأمريكية. وقد وصل الأمر بأجهزة الأمن الصهيونية التحذير من عواقب هذه الخطوة. ومع ذلك، ركب ترامب رأسه، كما يقولون، وأقدم على ما لا يقدم عليه عاقل، حتى لو كان مجنون ليلى بحب الصهيونية. هذا ويجب إشراك نتنياهو بهذا القرار.
عندما تُجمِع كل التحذيرات وعلى مستوى عالمي، ومن قِبَل حلفاء أمريكا، وبعضهم من العرب، وربما عدد من الأجهزة الأمنية، لا يمكن أن يتوقع المرء غير تراجعه وتأجيله للموضوع. ولكنه لم يتأثر في كل ذلك وتحدى الجميع.. الجميع. وأطلق ذلك الإعلان.
هنا، تبطل من الناحية السياسية والعقلانية الإجابة عن السؤال: ما السبب في هذا التوقيت بالذات؛ لأن أية إجابة لا يمكن أن توضع في كفة ميزان توازي الكفة التي تحمل كل تلك المواقف والتحذيرات من الإقدام على تلك الخطوة.
وهنا، يجب أن يلاحَظ وضع ترامب الذي تدهور داخلياً أمام المعارضة المؤسسية والشعبية الأمريكية، سواء أكان من ناحية التحقيقات المتعلقة بصهره جاريد كوشنر وابنه وبقادة حملته الانتخابية في تواصل سري بالروس، أم كان من جهة اتهامات له بالتحرش الجنسي، الأمر الذي راح يتهدد رئاسته، ما دفعه للإقدام على إصدار قرار اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني من أجل استرضاء ملايين الإنجيليين المتصهينين المتعصبين ليكونوا حماة له؛ يهددون أمريكا باضطراب كبير إذا ما تهددت رئاسته من خلال تلك التحقيقات.
وبهذا يكون القرار لدوافع داخلية صرفة، بعيداً عن الحسابات السياسية، ومن ثم تضحية بأية مخاطر يمكن أن تترتب عليها.
صحيح أن هذا الموال كان برأسه قديماً، ولكنه لم يُقدِم عليه طوال الأحد عشر شهراً الماضية بسبب المخاوف والتحذيرات المشار إليها، الأمر الذي يغلب عامل الاقتراب من تهديد رئاسته سبباً في التوقيت.
على أن هذا العامل لا يؤثر من قريب أو بعيد في قراءة هذا القرار وخطورته وجديته وضرورة مواجهته؛ لأنه فتح معركة أمريكية ضد القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، وكل من تهمه العدالة في العالم.
عندما يعتبر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسمياً أن القدس عاصمة للكيان الصهيوني، فهذا يعني إسقاط الحق الفلسطيني بكل فلسطين، وليس بالقدس وحدها؛ لأن لا معنى لفلسطين من غير القدس، ولأن فلسطين هي القدس والقدس هي فلسطين. ولهذا فالقدس هي الرمز لهذه العلاقة.
الأمر الذي يعني بداية بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني أن ترامب بهذا القرار أعاد، عملياً، طرح السؤال الأساسي، الذي نسيته سياسة اتفاق أوسلو، وهو لمن فلسطين؟ لمن القدس؟ ماضياً تاريخياً، وحاضراً، ومستقبلاً إلى آخر الدهر؟ إنه سؤال حرب الوجود التي شنها المشروع الصهيوني على الشعب الفلسطيني، وبدأ باقتلاع ثلثيه من ديارهم عام 1948 وإحلال الكيان الصهيوني مكانهم. وقد استمرت هذه الحرب حتى اليوم. وما إعلان ترامب – نتنياهو لقرار اعتبار القدس عاصمة للكيان الغاصب الاقتلاعي- الإحلالي “ما فوق العنصري”؛ إلاّ المضيّ بحرب الوجود ضد الشعب الفلسطيني. وهذ يُفسر لماذا فشلت كل مساعي التسوية وفشل أوسلو وحل الدولتين التصفوي، بالرغم من كل التنازلات الفلسطينية والعربية الخطيرة التي قُدِّمت. فالمطلوب من جانب الكيان الصهيوني كل فلسطين، وتهجير كل الفلسطينيين. وهذا يكشف التواطؤ الأمريكي وعبث الرهان على عملية التسوية.
نعم، قرار اعتبار القدس عاصمة الكيان الصهيوني يمثل مرحلة في تلك الحرب، يعلنها دونالد ترامب ونتنياهو، وهذا ما يجب أن يدخل في وعي كل فلسطيني وعربي ومسلم وحر في هذا العالم. وقد سبق هذا القرار تأكيد لضرورة هذا الفهم والوعي لأهداف المشروع الصهيوني واستراتيجيته، ما شكلته عملية التسوية منذ اتفاق اوسلو ومفاوضاتها من تغطية لتهويد القدس وتصاعد للاستيطان في الضفة الغربية. وها هو ذا يُراد مما يسمى بصفقة القرن (مشروع التسوية الأمريكي الجديد) أن يغطي تهويد القدس واعتبارها عاصمة للكيان الصهيوني.
هذه الحرب لا يكفي أن يرد عليها بما صدر من مواقف وقرارات رسمية فلسطينية (السلطة) وعربية وإسلامية ودولية، بالاعتراض على قرار ترامب، سواء أكان باعتباره مخالفاً للقانون الدولي والقرارات الدولية، أم مهدداً لما يسمى العملية السلمية ومحبطاً لها، أو دافعاً للاضطرابات والتطرف؛ لأنها حرب تريد أن تفرض وقائع جديدة في القدس والضفة الغربية، وتذهب إلى مستوى في العملية السياسية ضمن سقف ترامب ونتنياهو المسمى صفقة القرن الترامبية.
طبعاً كل معارضة أو مقاطعة لقرار ترامب في هذه اللحظة مهما تكن ضعيفة، أو حتى مضللة أو مستندة إلى أوهام حل الدولتين والتسوية، هي مفيدة في عزل ترامب ونتنياهو وإضعافهما، وتصب عملياً في خدمة الانتفاضة الشعبية الفلسطينية إذا ما تم الالتفاف حولها فلسطينياً على مستوى وحدة وطنية شاملة، كما على مختلف المستويات الشعبية العربية والإسلامية والعالمية.
على أن الارتفاع إلى مستوى التحدي الذي تمثله تلك الحرب التي أعلنها ترامب ونتنياهو ،من خلال قرار اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، وما يريدان أن يترتب عليه من تداعيات لا يكون إلاّ من خلال الجماهير الفلسطينية في القدس والضفة الغربية وغزة وأراضي الـ48؛ معلنة انتفاضة شعبية شاملة تتدرج إلى العصيان المدني طويل الأمد، لا يتوقف إلاّ بتحرير القدس والضفة الغربية بلا قيد أو شرط (مع الاحتفاظ بحق التحرير الكامل وعودة كل اللاجئين). وبهذا يسقط قرار ترامب نهائياً.
إن التحدي الخطير الأكبر الراهن الذي يواجه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني؛ هو استمرار الاحتلال واستشراء الاستيطان والتهويد في القدس والضفة الغربية، وهو السبب الذي يسمح بصدور قرار ترامب وتنفيذه. وهذا التحدي لا يُواجَه إلاّ بالانتفاضة الشاملة التي توحد الشعب الفلسطيني بكل فصائله وفئاته ومناطق وجوده، وتوحد الدعم العربي والإسلامي والعالمي. فما من أحد يستطيع أن ينكر على الشعب الفلسطيني دحر الاحتلال من الضفة الغربية والقدس، وبلا قيد أو شرط. فجميع الدول في العالم، بلا استثناء، معترفة أن الاحتلال والاستيطان غير شرعيين، وما ينبغي لهما أن يكافآ، أو أن يُفاوِضا على الأرض. أما موضوع الدولة والبحث عن اعتراف بها، فحديثه بعد ذلك وليس قبله.
باختصار: ثمة احتلال يجب أن يرحل وبلا قيد أو شرط، ويجب أن يعطل بالعصيان المدني وأشكال الانتفاضة، ليصبح ثمن بقائه مكلفاً سياسياً ومعنوياً ومادياً أكثر من رحيله. فما من احتلال في العالم رحل إلاّ بعد أن أصبح بقاؤه مكلفاً أكثر من رحيله. وهذا ما حدث في قطاع غزة، بالرغم من الحصار الظالم، ويمكن أن يحدث في القدس والخليل والضفة الغربية، بإذن الله.