مارد تحرر بعد تصريح ترامب: عاموس هرئيل
هذا هو التقدير الحديث حسب ما قدمته أمس الاستخبارات للمستوى السياسي. برغم إطلاق النار الواسع نسبيًا من قطاع غزة، على الأقل 24 قذيفة في التسعة أيام الأخيرة فإن حماس غير معنية بالمواجهة مع إسرائيل. سلطة حماس في القطاع أرخت الحبل قليلا للمنظمات السلفية المتطرفة (وربما أيضا الجهاد الإسلامي) بعد خطاب الرئيس ترامب في 6 كانون الأول ـ ومكنتهم من إطلاق القذائف تعبيرا عن المعارضة الفلسطينية للاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل. منذئذ تجد حماس صعوبة في السيطرة على القطاع وإعادة المارد إلى القمقم. أجهزة حماس الأمنية اعتقلت نشطاء سلفيين شاركوا في إطلاق النار، لكن يبدو أنه سيمر وقت إلى حين أن تنجح في إعادة الهدوء. الأجواء في القطاع بقيت متلبدة منذ فجرت إسرائيل النفق الهجومي، الذي قتل فيه 12 شخصا من الجهاد الإسلامي وحماس في نهاية تشرين الأول .
رجال الاستخبارات يجدون علاقة مباشرة بين ما يحدث في القطاع وأحداث الضفة الغربية. في القدس وفي الوسط العربي في إسرائيل تم الحفاظ على الهدوء بشكل عام، باستثناء المظاهرة العنيفة في شارع وادي عارة يوم السبت الماضي. احتجاج ترامب تم توجيهه من الأعلى نحو الأسفل، سواء السلطة الفلسطينية أو حماس التي دعا رؤساؤها لانتفاضة ثالثة شجعت الجمهور في المناطق للخروج في مظاهرات ضد الولايات المتحدة وإسرائيل، لكن الاستجابة كانت محدودة. في تلك الأحداث شاركت آلاف معدودة برغم أن الأمر يتعلق بالقدس. في الشارع الفلسطيني لم تتموضع رواية دينية حول الإعلان الأمريكي.
في ظل عدم وجود عمل رمزي على الأرض مثل «وضع البوابات الإلكترونية في الحرم»، في أعقاب قتل الشرطيين في العملية في تموز الماضي، وفي ظل عدم وجود هدف واضح للاحتجاج مثل «تراجع إسرائيل وإزالة أجهزة كشف المعادن» فإن الجمهور لم يحضر. في أجهزة الأمن الإسرائيلية أرادوا انتظار أحداث نهاية الأسبوع: الذكرى السنوية الثلاثين لتأسيس حماس التي وافقت أمس وصلوات الجمعة اليوم، إذا لم يكن هناك قتلى آخرون بعد هذه الأحداث فيمكن القول إن احتجاج ترامب انتهى بهذا الشكل أو ذاك.
ولكن ليس كل هذا التحليل المنطقي والمرتب يتوافق بالضرورة مع الواقع. أولا، حجم الاطلاق هو الأوسع الذي حدث في القطاع منذ انتهاء عملية الجرف الصامد في آب 2014، هذا حدث استثنائي جدا في واقع غزة الحالي، حيث يثور سؤال هل لا يوجد هنا إغماض عين مقصود ومستمر من حماس عن نشاطات الخلايا التي تطلق الصواريخ. وثانيا، الشباك أعلن أمس الأول أنه اعتقل خلية لحماس في قرية تل في منطقة نابلس التي خططت حسب أقواله لاختطاف جندي أو مستوطن في السامرة في عيد الأنوار. حماس تعطي للاختطاف أولوية، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة حسب رأيها لتحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وتحقيق إنجاز كبير كما فعلت في صفقة شليط في 2011. ولكنهم في حماس يعرفون أن إسرائيل تعتبر الاختطاف حدث استراتيجي مثل إعلان الحرب تقريبا، وهي سترد بشدة أيضا في الضفة. في جهاز الأمن يتولد الانطباع أن من يخططون العملية ليسوا من الهواة، لقد كان على رأسهم أحد النشطاء الميدانيين القدامى نسبيا (26 سنة)، وقد حصلوا على مسدس وجندوا الأموال وقاموا بجولات استطلاع في الشوارع كجزء من التحضير للعملية. التوجيهات جاءت من الخارج، من «قيادة الضفة» التابعة لحماس التي يشغلها من القطاع محررو صفقة شليط الخاضعين لقيادة الضفة برئاسة صالح العاروري الذي يقسم الآن وقته بين لبنان وتركيا.
إن تقارب الأحداث بين الاستعداد للاختطاف في الضفة والتصاعد الفجائي في إطلاق الصواريخ من القطاع يثير ذكريات ليست لطيفة من صيف 2014، في حينه، في شهر حزيران، اختطفت خلية لحماس من الخليل وقتلت الفتيان الثلاثة الذين سافروا برحلة مجانية قاتلة في غوش عصيون، في الأيام التي أعقبت العثور على الجثث في بداية تموز، وعلى خلفية غضب الجمهور الإسرائيلي، زاد التوتر في القطاع حول جهود الجيش الإسرائيلي لإحباط عملية محتملة من قبل حماس عبر نفق في كرم أبو سالم. أسابيع التصعيد أدت في نهاية المطاف إلى البدء بعملية الجرف الصامد.
الظروف في هذه المرة مختلفة. أولا، عملية الاختطاف في الضفة تم إحباطها. ثانيا، حماس قامت بخطوات أولية نحو المصالحة مع السلطة الفلسطينية، التي من شأنها أن تحررها من عبء الإدارة المدنية اليومية للقطاع وضخ الأموال الضرورية لغزة من أجل بقائها. ولكن عملية المصالحة تتأرجح، ومن الصعب استبعاد إمكانية الانزلاق نحو المواجهة، التي يمكن أن تعود وتفاجئ إسرائيل.
لا يمكننا تجاهل الضغط السياسي الداخلي في إسرائيل. رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قام بعمليتين عسكريتين في القطاع، وقد قام بذلك فيهما كمن يتخبطه الشيطان. في تشرين الثاني 2012 عشية عملية «عمود السحاب» وقف نتنياهو أمام حملة انتخابية للكنيست وتلقى هزة لا تتوقف من العناوين في «يديعوت احرونوت» التي ألقت عليه مسؤولية وضع سكان غلاف غزة تحت إطلاق صواريخ القسام من القطاع. في 2014 ألقي عليه ضغط مشابه من اليمين ومن الائتلاف، خاصة بعد العثور على جثث الفتيان. رئيس الحكومة نفسه اعترف هذه السنة في نقاش في الكنيست حول تقرير مراقب الدولة أنه لم يكن يرغب في الحرب في القطاع. وأنه جر إليها على خلفية العمليات الهجومية لحماس. التقديرات في إسرائيل لمصلحة رد محدود في هذه المرحلة يوجد عامل آخر لم يذكر ـ مواجهة مباشرة مع حماس الآن سترسخ في الوعي العالمي مثل «حرب ترامب» وستعتبر نتيجة مباشرة لاعتراف الولايات المتحدة بالقدس. لهذا تفضل إسرائيل إبعاد خطر المواجهة بقدر الإمكان.
ميزان قوى جديد
أحد التغييرات الأساسية التي حدثت منذ 2014 يتعلق بتغييرات القيادة في حماس. في الحرب الأخيرة انقسمت حماس بين الداخل والخارج. خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي للمنظمة وصاحب المكانة الأعلى فيها، استقر في قطر وحث رجاله على مواصلة القتال، في الوقت الذي كان فيه عدد من قيادة غزة يأملون وقف إطلاق النار تحت ضغط القصف الجوي الإسرائيلي. منذ ذلك الحين تم استبدال خالد مشعل بإسماعيل هنية الذي يعيش في غزة. وقد جاء بدلا من هنية قائد حماس في القطاع يحيى السنوار، رجل الذراع العسكرية في القطاع. ميزان القوى الجديد الداخلي في حماس نقل القوة من الخارج إلى الداخل وأعطى وزنا أكبر لخريجي الذراع العسكرية. السنوار أيضا هو من محرري صفقة شليط، وهو الأول الذي يوحد بشكل ما بين الذراع العسكرية والذراع السياسية. بعده احتل أيضا عدد من أصدقائه، قدماء الأسرى، مراكز مهمة في التنظيم. هؤلاء هم رجال جيل الوسط في حماس: شباب المجموعة التي التفت حول الشيخ أحمد ياسين عند إقامة الحركة في بداية الانتفاضة الأولى، الذين اجتازوا انتفاضتين، التي جاءت من «الضواحي» الفلسطينية، مخيمات اللاجئين في غزة. وهم يتحدثون اللغة العبرية بطلاقة ويعرفون بدرجة معينة المجتمع الإسرائيلي من خلال مكوثهم الطويل في السجون الإسرائيلية.
عندما تم انتخاب السنوار لمنصبه في شباط الماضي، زادت في إسرائيل التقارير عن تشدده وتصميمه الأيديولوجي. هذا الرجل في نهاية المطاف قضى أكثر من عشرين سنة في السجن بتهمة قتل متعاونين مع إسرائيل. ولكن في العشرة شهور التي قضاها في منصبه استطاع تبديد الكثير من التوقعات السابقة. ليس لأنه فجأة تبين أن السنوار مؤيد لإسرائيل (برغم تقليد جديد وناجح في «بلاد رائعة») بل لأن الضائقة الاستراتيجية التي وجدت حماس نفسها فيها أملت الانعطافة ـ وتبين أن السنوار مؤهل لاتخاذ قرارات حاسمة أكثر من أسلافه وشركائه في القيادة. السنوار هو الذي قاد حماس في اتفاق المصالحة مع السلطة الفلسطينية بوساطة مصر.
حسب تقدير الأجهزة الأمنية الإسرائيلية فإن الهدف الأهم لحماس بقي الحفاظ على حكمها في غزة، وبعد ذلك مواصلة بناء قوتها العسكرية، لكن الحفاظ عليها أصبح أصعب بسبب العزلة السياسية التي وجدت حماس نفسها فيها (الأزمة مع مصر، نقص الدعم المالي من دول الخليج)، ونقص الأموال الشديد الذي حدث في أعقاب ذلك. من هنا الاستعداد للتنازل عن جزء من صلاحيات الحكومة في غزة لمصلحة السلطة الفلسطينية. ولكن المصالحة ما زالت تكتنفها العقبات والتحفظات الكثيرة. بالأساس من جانب رئيس السلطة محمود عباس الذي جر إليها وهو غير راض. عباس الذي يخشى حقًا من أن تواصل حماس السيطرة على غزة بقوة السلاح، شبيها بالنموذج الذي اتبعه حزب الله في لبنان، لم يرسل أي شيقل لتحسين تزويد الكهرباء في غزة أو لدفع رواتب موظفي الدولة هناك. تصريح ترامب وفر ذريعة لإظهار موقف فلسطيني موحد، لكن إذا تم إعلان فشل المصالحة فستزول عقبة أساسية من أمام مواجهة عسكرية أخرى مع إسرائيل.
دروس الماضي
كانون الأول 1987 كان شهرا مليئا بالأحداث في تأريخ الفلسطينيين: ليس فقط إنشاء حماس بل أيضا اندلاع الانتفاضة الأولى كرد تلقائي بدأ بحادثة طرق دعس فيها سابق شاحنة إسرائيلية أربعة سكان فلسطينيين من القطاع.
في الرواية الفلسطينية ترسخت الانتفاضة فترة تثير الفخر: صحوة شعبية وقف فيها الأطفال وهم يحملون الحجارة بشجاعة أمام الدبابات الإسرائيلية وأمام الهراوات التي تكسر العظام للجيش الإسرائيلي وحرس الحدود. في معسكر فتح على الأقل تم عرض الانتفاضة في البداية على أنها أمر حرك سلسلة عمليات جاء في أعقابها مؤتمر مدريد وعملية أوسلو (في السنوات التي اعتبرت فيها السلطة أوسلو إنجازا).
ولكن الوقت الذي مر يمكن كما يبدو من القيام بمحاسبة النفس ونظرة متفحصة أكثر لما تم إنجازه وما لم يتم إنجازه.
في المقال الذي نشر في الأسبوع الماضي في صحيفة «الأيام» التي أصحابها مقربون من السلطة، كتب عبد الغني سلامة أن «الانتفاضة الأولى كانت حقا حدثا مميزا، اكتشاف أصيل لحركة النضال». ولكنه ذكر أيضا الأخطاء التي حدثت فيها والدروس التي يمكن استخلاصها منها حسب رأيه. الشعب الفلسطيني، ادعى، يجب عليه البدء بالتعلم من التجربة التي راكمها والقيام بانتقاد ذاتي ناجع.
حسب سلامة، في السنتين الأولين للانتفاضة تمت قيادتها بصورة جيدة، ولكن اعتقال رؤساء الانتفاضة ونقل القيادة إلى الجيل الشاب عديم التجربة، جلبا معهما أخطاء كثيرة. وينسب سلامة صعوبة تحقيق أهداف الانتفاضة إلى الانقسام بين فتح وحماس، وتزايد القيادات وخطط العمل المتناقضة. سلامة أيضا يعدد أخطاء الانتفاضة ويذكر الاضرابات التجارية الكثيرة التي أدت إلى تدهور اقتصاد المناطق وفرضت عبئا يصعب تحمله على الفلسطينيين.
وقال إنه سادت في المناطق فوضى أمنية حدث فيها أنه بدل مواصلة القتال ضد الجيش الإسرائيلي، تبنى الشباب هدفا أسهل، هو قتل المتعاونين مع إسرائيل.
تم جر المناطق إلى صيد المتعاونين، الذين كان كثير منهم أبرياء، وتم جر المناطق إلى عمليات الثأر والنزاعات العشائرية.
تطور آخر ضار، هو المس بجهاز التعليم الفلسطيني. الاضرابات الكثيرة عن التعليم أدى إلى أضرار بعيدة المدى، تركت حسب قوله خلفها جيل الشباب الذين شاركوا في النضال كـ «جيل جاهل».
ويضيف سلامة إن جو الحزن والقسوة الذي فرضته التنظيمات على الجمهور على خلفية النضال ضد إسرائيل والخسائر الكبيرة التي رافقها تشدد ديني، أوقفت الحياة اليومية في المناطق ومكنت من صعود قوة الحركة الإسلامية المتطرفة. مقال سلامة يعبر عن مصداقية فريدة في تحليل النضال الفلسطيني وحالات الفشل فيه. إن نشر هذا المقال في أيام توترات جديدة يطرح سؤالا: كيف يتم النظر بنظرة إلى الخلف أيضا إلى الفترة الحالية وفيها أخطاء الطرفين.
هآرتس