قرار ترامب بين الأعمال بالنيات أم بالنتائج؟ سقوط صفقة القرن أعاد «إسرائيل» وراء الجدار: ناصر قنديل
– يختلف الكثيرون بالحكم على الأعمال أخلاقياً بين القول إنّ الأعمال بالنيات أو القول إنّ الأعمال بالنتائج، فكثيرون يدعون لمغفرة أخطاء جسيمة بحقهم، إذا ثبت أنّ النية كانت صادقة للخير وكثيرون يقولون العكس إنّ التسبّب بالأذى واحد، ويستحق مسبّبه المعاملة ذاتها، أكان بنيّة حسنة أم سيئة. وفي السياسة تتفاوت الأحكام أيضاً بين ما يُسمّى بحساب الحقل وحساب البيدر، والقصد حساب الزرع وحساب الحصاد، فما ينويه صنّاع السياسة بأفعالهم هو خدمة مصالحهم وفقاً لرؤيتهم وحساباتهم، وكثيراً ما تكون النتيجة عكسية فتتضرّر المصالح المقصودة خدمتها، بسبب قصور الحسابات أو ضيق الخيارات، أو محاولة الجمع بين الضعف والتعجرف، بين العجز والإنكار. وفي مثل هذه الحالات كانت حروب أميركا و«إسرائيل» خلال العقد الماضي، النيات عكس النتائج، فهل يجب استبعاد أن يكون قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول القدس واحداً من هذه القرارات المحكومة بالمعايير ذاتها، للحرب على سورية وقبلها حرب تموز 2006، ومثلهما فرضية الانتصار بفرض الأحادية على العالم؟
– الأكيد أنّ الحسابات التي حكمت ترامب في تكرار فعل ما فعله الرؤساء الذين سبقوه، بتوقيع تأجيل تنفيذ قانون الكونغرس قبل ستة شهور، تمّت عكس وعده الانتخابي، فلا يفسّر هذا الوعد توقيع تنفيذ القانون الآن، فالحسابات التي أجريت وأفضت ليفعل ما فعله أسلافه، هي حسابات أسلافه ذاتها، وهي ما تغيّر، والتغيير عند من يُجري الحسابات وليس عند الرئيس، وكلّ أسلاف ترامب تشاركوا معه بالوعد ذاته ولم ينفذوه، وبقي مَن يجري الحسابات يوعز بتوقيع التأجيل ستة شهور بستة، ويستجيبون للإيعاز، وترامب فعل مثلهم قبل ستة شهور، حتى كان الإيعاز المعاكس وفقاً لحسابات جديدة. ولا يمكن التحدّث هنا عن خصوصية ترامبية، كان يفترض ظهورها برفض التمديد للتأجيل في المرة الأولى لو كانت هي السبب، وما خضوعه لما فعله أسلافه إلا الدليل على وجود مرجعية تحسب وتقرّر يلتزم بها الرئيس، في عهد ترامب وفي عهود أسلافه، فما هي الحسابات؟
– التوقيت هو الذي يفسّر التغيير، وهو توقيت يتصل بنتائج الرهان الأميركي على السعودية كمرجعية قادرة على إمساك معادلات المنطقة، تتوجّب مراعاتها، بحفظ ماء الوجه، طالما هي قادرة على تخديم المصالح الأميركية والإسرائيلية، وتثبت الأهلية لمزيد من القدرة، وهو رهان زادت أهميته بعدما ضعفت «إسرائيل» منذ تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، وفشل حروبها على لبنان وغزة، وصولاً لعجزها عن خوض الحروب، بالتوازي مع فشل الحروب الأميركية في تطويع سورية وإيران، وصولاً لحروب الربيع العربي، والفشل المشترك الأميركي «الإسرائيلي» التركي السعودي في ربح الحرب على سورية، وما نتج عن ذلك من معادلات جديدة في المنطقة، وحجم التهديد الوجودي الذي تعيشه «إسرائيل» بنتيجة كلّ ذلك.
– خاضت السعودية كلّ مراحل إثبات الأهلية للأميركيين بقدرتها على تغيير المعادلات لتستحقّ بيعها حلاً يحفظ ماء الوجه في القضية الفلسطينية، وارتضت حلفاً معلناً مع «إسرائيل» بوجه المقاومة وإيران، فكان سقف ما تمكن الأميركيون و«الإسرائيليون» من تقديمه هو ما سُمّي بصفقة القرن، وتعلم السعودية أن لا ماء وجه في هذه الصفقة، فحاولت خلق مناخ يسهم بتمريرها حرق أوراق قوتها دفعة واحدة، ليكون دخان الحرائق الكبرى سبباً لانعدام الرؤية والانشغال عن الصفقة المهينة، وما فيها من تنازلات، أوّلها التنازل عن القدس، فخاضت انفصال كردستان وتفجير لبنان باستقالة رئيس حكومته بعد خطفه، وصولاً لتوريط الرئيس اليمني السابق بالانقلاب في صنعاء، وفشلت بها جميعاً. وضغطت على السلطة الفلسطينية لانتزاع قبول الصفقة، ففشلت، لأنّ الثمن الفلسطيني سيكون مكلفاً لكلّ من يبيع، وأمام أعين الفلسطينيين انتصارات محور المقاومة. فصار السؤال الأميركي ماذا يمكن أن نقدّم لـ«إسرائيل» في زمن استعصاء السلم واستعصاء الحرب، ولماذا علينا أن نبقى نقيم الحساب لحفظ ماء الوجه السعودي، وهل بقي لعملية السلام من موجب؟
– الجواب ببساطة، كان أنّ عملية السلام ماتت، لأنّ الطرف العربي الذي يمكن مواصلتها معه لم يعُد يملك قدرة منح الشرعية للاعتراف بوجود «إسرائيل» ولا منحها الأمن ولا التطبيع. وهذه كلها باتت بيد محور المقاومة الرافض منحها، وأنّ قيمة الشريك العربي في هذه العملية بعد فقدان قدرته على كلّ ذلك هو قدرته على تقبّل حدود الشرعية والأمن والتطبيع التي تسمح لـ«إسرائيل» بمواجهة التحديات التي يواجهها بفعل تعاظم قوة محور المقاومة، وليس بالشروط التي تحفظ ماء وجه هذا الشريك العربي، والمشهد الجديد يقول إنّ على «إسرائيل» أن تنتظر حروباً مقبلة، ليست راهنة الآن، لكنها مقبلة، ولذلك عليها ترسيم جدار الحماية العقائدي والسياسي والاجتماعي، لضمان تماسك جناحيها العلماني والديني، وخوض حروبها المقبلة من وراء هذا الجدار، والقدس في قلب هذا الجدار، والقدر الممكن من الشرعية يجب أن تمنحه واشنطن لقيام هذا الجدار.
– تدرك واشنطن أنّ هذه الجائزة لـ «إسرائيل» تحتاج لهضمها وتثبيت خطوط دفاعها خلفها، لتضحيات وأثمان ومواجهات، وسنوات، وهي السنوات ذاتها التي تعتبر أميركا و«إسرائيل» أنّ محور المقاومة سيستعملها لهضم انتصاراته في سورية ولبنان والعراق، وربما في اليمن، وتدرك أنّ هذه الجائزة هي الشيء الوحيد الذي يمكن تقديمه لـ«إسرائيل» بعد الفشل بضبط مضمون التسويات المعروضة حول سورية والعراق، بالشروط المطمئنة لـ «إسرائيل». وفي المقابل تدرك حجم التداعيات الناتجة عن ذلك، لكنها تقيس الأمر بقياس الزمن، فالتداعيات اليوم أقلّ من الغد، والغد أسوأ من اليوم، فإن كان على «إسرائيل» مواجهة أخطار مواجهة، فليكن ذلك بمراحل، وليكن في أفضل الظروف المتاحة، لأنّ البديل هو قبول «إسرائيل» بحلّ سياسي يؤدّي لتفكّكها، بانقسام جناحيها العلماني والديني، كما أشارت تجربة رئيس الحكومة السابق اسحق رابين الذي دفع حياته ثمناً للواقعية السياسية، في زمن كانت التوازنات أفضل بكثير لحساب «إسرائيل» من اليوم، وسبقت صدور قانون الكونغرس بشبه إجماع حول القدس بسنة فقط.
– القرار الأميركي هو تعويذة أخيرة، يزوّد بها الأميركيون «إسرائيل»، والنيات هي تعزيز القدرة على مواجهة القدر القاتم، والنتائج هي تقريب ساعة هذا القدر، كما تقول فلسطين، والسياقات التي يبشر بها التناغم التصاعدي بين محور المقاومة والشارع الفلسطيني ومقاومته، إذ يكفي أنّ الأوهام والفتن قد سقطت مع صدور القرار، وهي السلاح الأميركي الحاسم، وقيمة الأعمال والنيات هي بالنتائج، هكذا تقول السياسة. والسؤال، كيف يشعل القادة الكبار الحروب فينتصرون أو يهزمون، إذا كانت الحروب، وهي أعلى مراتب السياسة في الحسابات، لا تُخاض إلا بحسابات صحيحة، أليست حرب العراق وعدوان تموز 2006 أمامنا مثالاً؟