القدس عاصمة فلسطين رغم أنف ترامب… والأيّام بيننا: ناصر قنديل
– الوجه الأوّل لقرار الرئيس الأميركي باعتماد القدس عاصمة لـ«إسرائيل» هو الإسقاط النهائي لفرضية مزعومة قادت العالمين العربي والإسلامي منذ أربعة عقود، أطلقها الرئيس المصري الراحل أنور السادات غداة توقيعه على اتفاقيات كامب ديفيد وعنوانها أن تسعة وتسعين في المئة من أوراق اللعبة بيد أميركا، وأن الانضمام إلى المعسكر الذي تقوده واشنطن يمنح العرب قدرة التأثير لفرض تنازلات على «إسرائيل» لنيل بعض الحقوق العربية، وأهم الحقوق العربية بلا نقاش يتصل بمصير القدس. وها هو الرئيس الأميركي يقول للذين عمّموا هذه الفرضية وسوّقوا لها، وخدعوا الشعوب العربية والإسلامية باسمها، أن السياسة الأميركية في المنطقة عندما تتصل بالصراع مع «إسرائيل» فهي «إسرائيلية» صرفة، وأن كل تمايز ظاهر لا يعدو كونه تعبيراً عن تقاسم أدوار أميركي «إسرائيلي» تحتاجه «إسرائيل» للجم الموقف العربي، عندما يمتلك بعض عناصر القوة، التي يحتاج التعامل معها إلى مجموعة من المناورات التي يشكل الموقف الأميركي محورها .
– الوجه الثاني الذي يكشفه القرار هو أن القضية ليست كما سيحاول الكثيرون الترويج اليوم، بأنها قضية رئيس متهوّر وغير متوازن، فالقرار إجرائي لرئيس أميركي يوقّع على قانون عمره عقدان ونيّف من إقراره في الكونغرس بمجلسيه، النواب والشيوخ، وبحزبيه الجمهوري والديمقراطي، ليكون الإطار القانوني والتشريعي للخطوة متى حان وقتها، والوقت هو إما انتزاع توقيع عربي وفلسطيني على صفقة سلام تحقق الأمن والتفوق لـ «إسرائيل»، وتمنح الشرعية الشعبية لهذا الأمن ومعه التطبيع، أو اليأس من قدرة جماعة أميركا من تأمين الشرعية المطلوبة للأمن «الإسرائيلي» والعجز عن تقديم التغطية اللازمة للتطبيع الشعبي، فيصير القرار شرطاً مسبقاً لضم هؤلاء العرب إلى المظلة الأميركية، بتحالف معلن مع «إسرائيل»، ليقول إن لإنهاء عنوان الصراع مع إسرائيل شرطاً واحداً هو الشرط «الإسرائيلي»، ومَن يريد التغطية الأميركية فليأت إلى هذا الشرط، طالما لم يعد هؤلاء يملكون عناصر القوة التي تضبط الشارع وتقوده، فيطبّع إذا طبّعوا، ويوقف المقاومة إذا قرّروا، فهذا ليس سلاماً بل تحالف حرب مع محور يملك القدرة على مقاومة التطبيع ومقاومة الاحتلال، ومثلما يفرض القوي شروط السلام يفرض شروط التحالف.
– الوجه الثالث للقرار الأميركي هو أنه يسقط كل حديث عن الدور الذي يمكن للعملية السياسية والرهان عليها أن تفعله، فلا تزال أميركا العضو الذي يملك حق النقض في مجلس الأمن، والأمم المتحدة مشلولة القدرة على السير في أي خطوات جدية بعيداً عن السياسة الأميركية، ولا تزال واشنطن تقود حلف الناتو والعالم الغربي ومهما كان التمايز الأوروبي فهو باقٍ بلا فعالية، والسعي لتطوير المواقف الداعمة لحقوق الفلسطينيين مطلوبة ومهمة، لكن الرهان على اعتبارها طريقاً لعملية سياسية مجدية مجرد وهم، فحدود ما تفيد فيه هو أن تشكل مناخاً يجري استثماره للتعاطف مع النضال لنيل الحقوق. وهو نضال لم تعد الأوهام حول العملية السياسية ميدانه، فلا الذهاب للمحاكم الدولية ولا الرهان على تصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والاعترافات بدولة فلسطين، ستفرض حقائق جديدة تتخطى كونها حبراً مفيداً على ورق مفيد، إذا رسمت الحقائق في الميدان، وتصير أقل من قيمة الحبر الذي كُتبت به إذا تركت «إسرائيل» وحدها ترسم الحقائق في الميدان.
– الوجه الرابع لقرار الرئيس الأميركي هو ما يمنحه من صدقية للذين آمنوا واستثمروا على خيار المقاومة، وقالوا عبره إنه الطريق لاسترداد الحقوق، ووظفوا السياسة في خدمته، بدلاً من توظيف في خدمة السياسة. وها هي الحقائق الجديدة تقول، إن إضعاف شوكة أميركا وحلفائها في المنطقة، إضعاف لـ»إسرائيل»، وإن هذا التنمّر الأميركي لا يلغي حقيقة أن أميركا هزم مشروعها، وأن «إسرائيل» تحت تهديد وجودي، وأن كليهما في حال ذعر من المستقبل، وأن ترسيم حدود الغيتو «الإسرائيلي» علامة الفشل في خلق حقائق تحمي صفقة القرن التي وجدوا لها الشريك العربي لبيع فلسطين، لكنهم لم يجدوا لهذا الشريك القدرة على تأمين أمن «إسرائيل» ولا على ضمان تشريع التطبيع معها شعبياً، ولأن مصير شرعية الاحتلال لفلسطين والقدس في قلبها، يرسم في الميدان، وأسياد الميدان لم يعودوا جماعة أميركا و»إسرائيل»، ولا الواقعين في حبائلهم، أو المصدّقين خداعهم وأكاذيبهم، بل الذين يخطّون بدمائهم وتضحياتهم مستقبل المنطقة، اقتراباً من فلسطين، بعدما قالت تجاربهم إن وصفتهم المقاومة قادرة على التحرير وقادرة على النصر.
– الوجه الخامس الذي يضعه القرار الأميركي على الطاولة، هو أن الحرب الدائرة مباشرة وبصورة غير مباشرة في المنطقة، بين محور المقاومة من سورية إلى العراق ولبنان واليمن، والمحور التابع لأميركا، هي حرب حول فلسطين، ورسم لأحد خيارين لمستقبلها، التهويد، كما يقول القرار الأميركي، أو التحرير، كما تقول وصفة المقاومة، وبالتالي للواقفين في المنطقة الرمادية بين الخيارين، والمعنيّون منهم بمستقبل فلسطين بصورة خاصة، يقول إن زمن الرمادي يعني شيئاً واحداً التموضع تحت راية حلف تضييع فلسطين، والمشاركة بالتنازل عن القدس، وكل موقف فلسطيني خصوصاً، لا يعلن أن طريق المقاومة بات خياراً أحادياً، جزء من حملة تضييع فلسطين والقدس، مهما تحدّث عن خطورة قرار ترامب وعن تعريضه المنطقة للأخطار، وتهديده العملية التفاوضية، فكله كلام بكلام، لأن العبرة بالخلاصة، مزيد من الكلام أم مزيد من الأفعال، وللفعل المجدي طريق وحيد هو المقاومة بأشكالها كافة، والفلسطينيون أساتذتها.
– القدس عاصمة فلسطين، حقيقة تاريخية أبدية، رغم أنف ترامب…والأيام بيننا لتقول مَن سيكتب تاريخ المنطقة ومستقبلها، وأن مَن يضحك اليوم قد يبكي غداً ومَن يبكي اليوم قد يضحك غداً، ويضحك كثيراً مَن يضحك أخيراً.